تمنعوا في الطلب ولا تفترقوا ، واجتمعوا واخفوا الصوت ، واذكروا اسم الله في أنفسكم ، وجرّدوا سيوفكم وضعوها فيمن أشرف لكم. ثم دفع (١) عليهم الغارة ، فما نبح كلب ولا تحرّك أحد ، ولا شعروا إلّا بالقوم قد شنوا عليهم الغارة ينادون بشعارهم : يا منصور أمت. فقتل من أشرف له ، وسبا من قدر عليه ، وحرق في طوائفها بالنار ، وحرق منازلهم وحروثهم ونخلهم. فصارت أعاصير من الدخاخين ، وأقام الخيل في عرصاتهم ، ولم يمعنوا في الطلب ، أصابوا ما قرب منهم ، وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم. وكان أسامة خرج على فرس أبيه الذي قتل عليها أبوه يوم مؤتة كانت تدعى سبحة. وقتل قاتل أبيه في الغارة ، خبّره به بعض من سبى ؛ وأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما. وأخذ لنفسه مثل ذلك. فلما أمسوا أمر الناس بالرحيل ، والدليل أمامه حريث العذري ، فأخذوا الطريق التي جاء منها ، ودأبوا (٢) ليلتهم حتى أصبحوا بأرض بعيدة. ثم طوى البلاد حتى انتهوا إلى وادي القرى في تسع ليال ثم قصد يغذ السير إلى المدينة وما أصيب من المسلمين أحد فبلغ ذلك هرقل وهو بحمص فدعا بطارقته فقال : هذا الذي حذّرتكم ، فأبيتم أن تقبلوه مني. قد صارت العرب تأتي من مسيرة شهر فتغير عليكم ، ثم تخرج من ساعتها ولم تكلم. قال أخوه يناق : فأبعث رابطة تكون بالبلقاء (٣). فبعث رابطة واستعمل عليهم رجلا من أصحابه ، فلم يزل مقيما حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر رضياللهعنهما.
قالوا : واعترض لأسامة في منصرفه قوم من أهل كثكث ـ قرية هناك ـ قد كانوا اعترضوا لأبيه في بدأته فأصابوا من أطرافه ، فناهضهم أسامة بمن معه فظفر بهم وحرّق عليهم ، وساق من نعمهم ، وأسر منهم أسيرين فأوثقهما ، وهرب من بقي ، فقدم بهما المدينة فضرب أعناقهما.
أخبرنا أبو بكر الفرضي ، أنا أبو محمد الجوهري ، أنا أبو عمر بن حيّوية ، نا عبد الوهّاب بن أبي حيّة ، نا محمد بن شجاع ، نا الواقدي (٤) ، قال : فحدثني أبو
__________________
(١) عن الواقدي وبالأصل وخع : رفع.
(٢) في الواقدي : «ودانوا ... انتهوا بأرض بعيدة».
(٣) البلقاء : كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى (معجم البلدان).
(٤) مغازي الواقدي ٣ / ١١٢٤.