فتحرك قلبه تحسّرا على فقد الخلاّن وخراب الأوطان فقال : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [البقرة : ٢ / ٢٥٩] يعني كيف تعود هذه البلدة على ما كانت عليه بعد خرابها؟! فاستبعد أن تعود على ما كانت عليه من نباتها وشجرها وبساتينها ، كما يستبعد النّاس أن تعود البلاد كما كانت عليه بعد خرابها ، على مجرى العادة.
وهذا من الكلام المباح الذي يقوله النّاس إذا خربت البلاد وكانوا يعرفونها عامرة من قبل.
وكثيرا ما قيل هذا في ندب الأطلال الخالية والرسوم البالية ، إلا أنّ أهلّ المراقبة يطلبون بهذه الأقوال التي كان غيرها أولى منها كما تقدّم.
فإنّ مثل أولئك لا يستبعدون كائنا في مقدور الله تعالى ، كان معتادا أو غير معتاد ، لما يعلمون من نفوذ إرادته ، ومضاء أمره ، إذا أراد شيئا فإنّما يقول له كن فيكون.
كما عتب الملائكة امرأة إبراهيم عليهالسلام حيث قالت : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) [هود : ١١ / ٧٢] ، فقالوا لها : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ١١ / ٧٣].
أي : مثلك يرى في فعل الله عجبا وأنت صدّيقة!؟.
قال المشايخ (١) : العجب أن لا ترى عجبا ، فإذا لم تر عجبا كنت أنت العجب!.
فلما استبعد إصلاحها على مجرى العادة أراه الآية في نفسه ، فأماته ثم أحياه بعد مائة سنة ، ثم أطلعه على ذلك بأن أنشأ له الحمار الذي كان يركبه بعد ما أماته ورمّ حتى صار ترابا ، ثم أنشأه له من التّراب وهو ينظر إليه ، وأبقى عنبه كما كان بعد مائة سنة.
__________________
(١) المعنى أنّ استغراب الأمر العجيب والنظر في كيفيّته وشأنه هو الأمر الطبيعيّ. ومن لم يستغرب ذلك ، ومن لم يتنبّه ولم يهتمّ فهو مثار العجب (لأنه يكون مقصّرا عن التفاعل مع الجديد والغريب والمدهش والنّادر وما يخالف المألوف وجري العادة).