ألا ترى أن التوكيد من مواضع الإطناب والإسهاب ، والحذف من مواضع الاكتفاء والاختصار ، فهما إذن كما ذكرت لك ضدان لا يجوز أن يشتمل عليهما عقد كلام.
ويزيد ذلك وضوحا امتناع أصحابنا من تأكيد المضمر المحذوف العائد على المبتدأ في نحو «زيد ضربت» في من أجازه ، فلا يجيزون «زيد ضربت نفسه» على أن تجعل النفس توكيدا للهاء المرادة في ضربته ، لأن الحذف لا يكون إلا بعد التحقيق والعلم ، وإذا كان ذلك كذلك فقد استغني عن تأكيده.
ويؤكد عندك ما ذكرت لك أن أبا عثمان وغيره من النحويين حملوا قول الشاعر :
أمّ الحليس لعجوز شهربه (١)
على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة. ولو كان ما ذهب إليه أبو إسحاق وجها جائزا لما عدل عنه النحويون ولا حملوا الكلام على الاضطرار إذا وجدوا له وجها ظاهرا قويا ، وحذف المبتدأ وإن كان شائعا في مواضع كثيرة من كلامهم فإنه إذا نقل عن أول الكلام قبح حذفه. ألا ترى إلى ضعف قراءة من قرأ : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) (الأنعام : ١٥٤) (٢) قالوا : وقبحه أنه أراد : على الذي هو أحسن ، فحذف المبتدأ في موضع الإيضاح والبيان ، لأن الصلة لذلك وقعت في الكلام ، وإذا كان ذلك موضع إكثار وإيضاح فغير لائق به الحذف والاختصار.
فإن قلت : فقد حكى سيبويه في الكتاب : «لحقّ أنه ذاهب ، فيضيفون ، كأنه قال : ليقين ذلك أمرك ، وليست في كلام كل العرب» (٣) فأمرك هو خبر يقين ؛ لأنه قد أضافه إلى ذلك ، وإذا أضافه إليه لم يجز أن يكون خبرا عنه.
قال سيبويه : «سمعنا فصحاء العرب يقولونه» (٤) فكيف جاز أن يحذف الخبر واللام في أول الكلام ، وقد شرطت على نفسك أن الحذف لا يليق بالتوكيد؟
__________________
(١) سبق التعليق عليه.
(٢) رفع (أحسن) قراءة الحسن وغيره. انظر / الإتحاف (ص ٢٢٠).
(٣) الكتاب (١ / ٤٧٧).
(٤) جاء ذلك في الكتاب (١ / ٤٧٧).