وحده ينفع إلى حد معين ، وأدوات النجح في طريقه تحتاج إلى علم وفطرة. والعلم بالتعلم والتريض ، والفطرة هبة لا تباع ولا تشرى.
أنت يا هذا إذا حفظت قواعد علم من العلوم ، يتعذر عليك أن تدعي الكيمياء والطبيعة أو السياسة والاجتماع ، علوم مختلفة طويلة الذيل لا ينفع معها التخليط. القواعد المجملة التي تحفظ من كتاب في موضوع تحتاج في إتقانها إلى صرف طائفة طويلة من عمرك فلا تعطيك القريحة قياد كل أمر ولا تيسر في سبيلك كل دعوى. ولذلك ترى من هذا شأنه صاعدا متدليا ، ينفي اليوم ما أثبت أمس ويحارب حينا من سالمه زمنا ، يصانع أرباب القوة طورا ثم يقلب لهم ظهر المجن تارة ، إذا لم يستمرئ ما أطعموه ولم يستقبل من أمره ما استدبر في وضع الخطط التي خطها لهم ، والناس كلهم في نظره صغار عقول وأرباب فضول وهو لا يرى غير نفسه استجمعت ضروب المحامد ، ولذلك لا يضن عليها بما يمجدها ، ويضع الألقاب الضخمة لها وينوه أبدا بما انطوى عليه من شرف وعلم وعمل ، ومن رضي عنه من الناس ينيله من عطفه ما لو وزن أيضا في ميزان القسط لشالت كفته. والعاقل من أنصف نفسه قبل أن ينتصف الناس منه ، ومن ظلم نفسه كان حريا بأن يظلم غيره ، ولهذا أمثال غير قليلة فيمن يلقبونهم ب «البارزين» والخواص أي النابهين.
نموذج آخر. بينا تجد الأول يجرع دعوته كما يجرع الصاب والعلقم ويستعلي ويستطيل ويحاول أن يثبت أنه مصدر كل خير ، لو استمع الناس له لتمت سعادتهم الدنيوية والأخروية، ترى أخاه قد اتخذ في الحياة غير طريقته وخالفه في سيره وسيرته ، فقد لقن في صباه مجملات يحكم فيها بالجزئيات على الكليات حكما مسمطا ويتلطف ويتطرف ليجد السبيل إلى قلوب العامة والسوقة لأنهم كثير سوادهم يستميلهم بالدعابة والفكاهة ، وماذا يهمه من الخاصة وهم قليل عديدهم ، وما يناله من غضبهم ورضاهم ما دام الجمهور عنه راضيا. وأحسن ما يراه للوصول إلى قلوب العامة أن يرضي كل صاحب سلطان ، لأن في رضى القويّ تنطوي المظاهر والدنيا وهو عبدها وغايته من الحياة السجود على أبواب سدنتها ، لا يبالي أن يصعق