وبرعت بالترجمة من الإفرنسية إلى العربية وبالعكس. ولما أحرزت شهادة المدرسة الرشدية من درجة متوسطة ، لأني لم أتمكن على ما يجب من الرياضيات لإصابتي بالحسر وضعف البصر ـ بحيث لم أكد أتبين عن بعد ما يرسم الأستاذ من أشكالها وخطوطها في اللوحة ، ففاتني التبحر فيها مع الأسف ـ عينت مدة ست سنين موظفا في قلم الأمور الأجنبية ، فأخذت في خلالها أتقن آداب التركية. وشرعت أنشئ فيها كما أنشئ بالإفرنسية ، وقد اختلفت حولين كاملين إلى مدرسة اللعازاريين للاضطلاع بآداب اللغة الإفرنسية ، ودرست الطبيعيات ودروس الكيمياء بهذه اللغة لأزيد تمكنا منها.
وقد اقتطعت مع ذلك جانبا من الوقت لدرس الآداب العربية والعلوم الإسلامية ، وتلقيت اللغة الفارسية حتى حذقتها ثم أنسيتها. وفي خلال تلك المدة اتصلت بالأساتذة الشيخ طاهر الجزائري والسيد محمد المبارك والشيخ سليم البخاري وأخذت عنهم وعن غيرهم من مشايخ الطبقة الثانية كل ما وسعتني قراءته ، من كتب اللغة والأدب والبيان والاجتماع والتاريخ والفقه والتفسير والفلسفة. وكان العامل الأكبر في توجيه إرادتي نحو الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي ، والإقدام على التأليف والنشر ، وإشرابي محبة الأجداد والتناغي بآثارهم ، والحرص على تراث حضارتهم ، أستاذي الأكبر الشيخ طاهر الجزائري ، فما زلت ألزمه منذ اتصلت به إلى أن ذهب إلى ربه سنة (١٣٣٨ ه) حميد الأثر. وكنت بدأت بنظم الشعر فنهاني عن تعاطيه أستاذي المبارك ، وأرادني على إتقان الإنشاء فقط ، وما ينبغي له من الأدوات ، لئلا يشغلني الشعر بلذته عن طلب العلم. فصدعت بأمره ، كما كنت قبلت نصيحة والدي ، وأنا يافع ، بترك الإنشاد بصوت رخيم. لأن ذلك كان يعدّ في نظره شيئا وضيعا كما روى ذلك عن شيخه. وهكذا حرمني والدي الموسيقى ، وحرمني شيخي الشعر. ولو لا نصيحتهما لعنيت بهذين الفنين ، وكانا لي سلوى وأي سلوى. ولكن أستاذي المبارك خرجني باللغة والإنشاء. ووالدي ، وكان عاميا يقرب من الأمية ، أنفق عن سعة ليعلمني. فكان مدة سنين يدر الرواتب على أساتذتي ، وقد ابتاع لي خزانة كتب كانت تعد في ذلك العهد شيئا في بلدتي.