الملاطفة وتسهيل ما في تسهيله فائدة لمثل هؤلاء إلى الخير ، إذا كان الشرع قد جعل لتسهيله طريقا ، كما أن من حقها التشديد فيما ترى أن في تسهيله ما يؤدي إلى ارتكاب شيء من حرمات الله».
ويرسم ابن السبكي المعلم للمدرس منهجا تربويا راشدا حين يقول : «وحق عليه أن يحسن إلقاء الدرس وتفهيمه للحاضرين ، ثم أن كانوا مبتدئين فلا يلقي عليهم ما لا يناسبهم من المشكلات ، بل يدربهم ويأخذهم بالأهون فالأهون ، إلى أن ينتهوا إلى درجة التحقيق وإن كانوا منتهين فلا يلقي عليهم الواضحات ، بل يدخل بهم في المشكلات». وتتجلى دعوة صاحبنا الإصلاحية في أبهى صورها حين يأسى للفلاح الذي يستهلك في السخرة والإقطاع. فحين يتكلم عن منصب ناظر الجيش وتحديد اختصاصاته يقول : «ومن قبائح ديوان الجيش الزامهم الفلاحين في الإقطاعات بالفلاحة. والفلاح حر ، لا يد لآدمي عليه ، وهو أمير نفسه».
وبعد ... ألا تعتقد معي أيها القارىء الكريم أن هذا الرجل إنما يتكلم بلغة عصرنا ، كمصلح اجتماعي ، وكعالم نفساني ، بصير بالنفس الإنسانية ، عالم بضعفها.
وكان طبيعيا بعد هذا النقد المر الجارح لنظام الحكم وأخلاق الناس أن تتعرض حياة الرجل ومصير أسرته للزوابع والأعاصير. فيعزل عن منصب القضاء ، لأسباب واهية ذكرها الحافظ ابن حجر في «الدرر الكامنة» وتجري له محاكمة ، يحكم عليه فيها بالحبس سنة. ولكن هل ضعف ابن السبكي ، أو تخاذل؟ استمع إلى معاصره الحافظ ابن كثير يقول : «جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجر على قاض قبله. وحصل له من المناصب والرياسة ما لم يحصل لأحد قبله ، وإبان في أيام محنته عن شجاعة وقوة على المناظرة ، حتى أفحم خصومه ، ثم لما عاد عفا عنهم ، وصفح عمن قام عليه».