وفي صدر الإسلام لم يتطور مفهوم الإيجاز كثيرا عما كان عليه في العصر الجاهلي. حقا لقد اقتضى الأمر تدوين الرسائل في الإسلام لأغراض شتى ، ولكن ظروف المجتمعين الجديد والقديم كانت لا تزال متقاربة متشابهة من جهة قلة الكاتبين وندرة أدوات الكتابة ، ولذلك ظل الإيجاز وسيلة أكثر منه غاية قائمة لذاتها.
ثم شيئا فشيئا زاد الاهتمام بالكتابة وتفرغ لها طائفة من الأدباء يفتنون في طرقها وأساليبها ، فكان ذلك إيذانا ببدء مرحلة جديدة في تطور مفهوم الإيجاز والنظر إليه على أنه مطلب بلاغي في حد ذاته يتنافسون في الإبداع فيه حتى ود بعضهم لو كان الكلام كله توقيعات مصبوبة في قوالب من الإيجاز.
* * *
فإذا أتينا إلى العصر العباسي فإننا نرى الجاحظ في القرن الثالث الهجري يحدد مفهوم الإيجاز بقوله : «الإيجاز هو الجمع للمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة (١)».
ثم نراه فيما بعد يتوسع في مفهوم الإيجاز ، فلم يعد يقصره على «جمع المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة» ، وإنما صار الإيجاز عنده بمعنى «أداء حاجة المعنى ، سواء أكان ذلك الأداء في ألفاظ قليلة أم كثيرة» ، فقد يطول الكلام وهو في رأيه إيجاز لأنه وقف عند منتهى البغية ولم يجاوز مقدار الحاجة (٢).
فمقياس الإيجاز في نظره إذن هو أداء حاجة المعنى وعدم تجاوز مقدار هذه الحاجة أو النكوص عنها طال الكلام أم قصر.
وعند أبي هلال العسكري يتمثل الإيجاز في ترديد رأي أصحابه القائل بأن «الإيجاز قصور البلاغة على الحقيقة ، وما تجاوز مقدار الحاجة فهو
__________________
(١) كتاب الحيوان ج ٣ ص ٨٦.
(٢) كتاب الحيوان ج ٦ ص ٧.