أيديهم من الكفر والمعاصي والمواقف المفضوحة ، ثم اضطروا إلى الرجوع إليك لكشف ما حل بهم من المصائب ، فلا يقدرون على الإعراض والفرار منها ، ثم جاؤوك ـ وهو معطوف على (يَصُدُّونَ) ـ يزعمون كاذبين أنهم ما كانوا يريدون بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا في المعاملة ، وتوفيقا بينهم وبين خصومهم بالصلح ، أو اعتذروا إليك وحلفوا : ما أردنا بذهابنا إلى غيرك ، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق ، أي المداراة والمصانعة ، لا اعتقادا منا بصحة ذلك التحاكم ، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، يُسارِعُونَ فِيهِمْ ، يَقُولُونَ : نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) [المائدة ٥ / ٥٢]. وهذا وعيد شديد على ما فعلوا ، وأنهم يندمون حين لا ينفع الندم. ونظير ذلك : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) [التوبة ٩ / ١٠٧].
هذا النوع من الناس وهم المنافقون الله يعلم ما في قلوبهم ، وسيجزيهم على ذلك ، فإنه لا تخفى عليه خافية ، وهو عالم بظواهرهم وبواطنهم ، فأعرض عنهم أي لا تأبه بهم ولا تعنفهم على ما في قلوبهم ، وعظهم أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر ، وأنصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.
وقوله : (أُولئِكَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أسلوب يستعمل فيما يعظم من خير أو شر ، فمقدار ما في قلوبهم من كفر وحقد ومكر وكيد بلغ حدا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى.
وقوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ، وَعِظْهُمْ ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) يدل على كيفية معاملتهم بثلاثة أحوال : الإعراض عنهم ، والنصح والتذكير بالخير لترق قلوبهم ، والقول البليغ المؤثر في النفس بالترغيب تارة وبتخويفهم بالقتل إن ظهر منهم النفاق تارة أخرى.