ثم قرر إبراهيم عليهالسلام الهجرة إلى بلاد الشام ، فقال تعالى :
(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَأَدْعُوا رَبِّي ، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) أي وأبتعد عنكم ، وأهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم ، حين لم تقبلوا نصحي ، وأعبد ربي وحده لا شريك له ، وأجتنب عبادة غيره ، لعلي لا أكون بدعاء ربي خائبا ، كما خبتم أنتم بعبادة تلك الأصنام التي لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضركم. و (عَسى) ذكر ذلك على سبيل التواضع ، كقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء ٢٦ / ٨٢] ويراد بها التحقق لا محالة ، فهو عليهالسلام أبو الأنبياء. كذلك قوله : (شَقِيًّا) ذكره على سبيل التواضع ، وفيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم في قوله المتقدم لأبيه : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً).
ولما أنفذ ما نواه وعزم عليه ، حقق الله رجاءه ودعاءه ، فقال :
(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) أي فلما اعتزل إبراهيم الخليل أباه وقومه ، وترك أرضه ووطنه ، وهجر موضع عبادتهم غير الله ، وهاجر في سبيل الله إلى أرض بيت المقدس حيث يقدر على إظهار دينه ، أبدله الله من هو خير منهم ، ووهب له إسحاق بعد أن تزوج من سارّة ، وابنه يعقوب حفيده ، بدل الأهل الذين فارقهم ، وجعل الله كل واحد من إسحاق ويعقوب نبيا أقرّ الله بهم عينيه ، فكل الأنبياء من سلالتهما ، وكل الأديان تحب إبراهيم وتحترمه مع إسحاق ويعقوب.
(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا ، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) أي وأعطيناهم من فضلنا ورحمتنا النبوة والمال والأولاد والكتاب ، وجعلنا لهم الثناء الحسن على ألسن العباد ، كما قال تعالى: (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٨٤]. قال ابن جرير : وإنما قال : (عَلِيًّا) لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.