موسى عصاه ، وابتلعت عصيهم وحبالهم ، علموا أن فعل موسى ليس من قبيل السحر والحيل ، بل هو عن أمر الله القادر على كل شيء ، فسجدوا لله وآمنوا برسالة موسى ، قائلين : آمنا برب العالمين ، رب هارون وموسى ، مفضلين الآخرة على الدنيا ، والحق على الباطل. قال ابن عباس وعبيد بن عمير : كانوا أول النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء بررة. وروى عكرمة عن ابن عباس أيضا أنه قال : كانت السحرة سبعين رجلا ، أصبحوا سحرة ، وأمسوا شهداء. قال الأوزاعي : لما خر السحرة سجدا ، رفعت لهم الجنة ، حتى نظروا إليها.
الله أكبر! ففعل الله أعجب وأدهش ، والإيمان البسيط سبب للمجد العظيم ، والفضل الكبير ، والنعم الخالدة في جنان الله. وليس المراد بقوله : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) أنهم أجبروا على السجود ، وإلا لما كانوا محمودين ، بل إنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا ، قال صاحب الكشاف : ما أعجب أمرهم ، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!!
وإنما قالوا : (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) ولم يقولوا برب العالمين فقط ؛ لأن فرعون ادعى الربوبية في قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات ٧٩ / ٢٤] وادعى الألوهية في قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص ٢٨ / ٣٨] فلو أنهم قالوا : آمنا برب العالمين فحسب ، لقال فرعون إنهم آمنوا بي ، لا بغيري ، فاختاروا هذه العبارة لإبطال قوله ، والدليل عليه : أنهم قدموا ذكر هارون على موسى ؛ لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى ؛ لأنه رباه في صغره كما حكى تعالى عنه : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) [الشعراء ٢٦ / ١٨].
ثم إن فرعون لما شاهد السجود والإقرار بالله تعالى ، خاف متابعة الناس لهم واقتداءهم بهم في الإيمان بالله وبرسوله ، فألقى شبهة أخرى في النبي ونبوته ، فقال :