ثم أبان الله تعالى وجوه إحسانهم في العمل ، فقال :
(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا ينامون زمنا قليلا من الليل ، ويصلون أكثره ، فتكون (ما) زائدة وهو القول المشهور ، و (قَلِيلاً) ظرف ، ويجوز أن تجعل (ما) صفة للمصدر ، أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا. وأنكر الزمخشري كون (ما) نافية ، تقديره : كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه ، وقال : لا يجوز أن تكون نافية ، لأن ما بعد (ما) لا يعمل فيما قبلها ، تقول : زيدا لم أضرب (١).
(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي يقولون في الجزء الأخير من الليل : اللهم اغفر لنا وارحمنا. وصفهم بأنهم يحيون أكثر الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار ، وكأنهم باتوا في معصية ، وهذا سيرة الكريم ، يأتي بأبلغ وجوه الكرم ، ثم يستقله ويعتذر ، واللئيم بالعكس ، يأتي بأقل شيء ، ثم يمنّ به ، ويستكثر. قال الحسن : مدّوا الصلاة إلى الأسحار ، ثم أخذوا في الأسحار بالاستغفار.
ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة رضياللهعنهم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أنه قال : «إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، حتى يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول : هل من تائب ، فأتوب عليه؟ هل من مستغفر ، فأغفر له؟ هل من سائل ، فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر».
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف ١٢ / ٩٨] : أخرهم إلى وقت السحر.
وبعد أن وصفهم تعالى بكثرة الصلاة التي هي عبادة بدنية ، وصفهم بأداء العبادة المالية ، فقال :
__________________
(١) الكشاف : ٣ / ١٦٨