أم (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ..). إذا فليس احتمال التأثير في باب الأمر والنهي مما يحتمله هذان الفرضان الإلهيان ، وإنما «عذرا» : (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) أو «نذرا» : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) وهنا «ربكم» في موقف التنديد بهؤلاء الذين تركوا واجب التربية بذلك النهي وانحازوا إلى النهي عن ذلك النهي.
ثم من عظيم الفائدة فيمن تعلم أنه لا يتأثر بالفعل ، أنه لعلّه يتأثر بتكرار العظة وتواترها ، أم ـ ولأقل تقدير ـ تكون العظة حجة عليه كيلا يقول الذي لا يتأثر : إن وعظت تأثرت ، أو إن كررت لاتعظت ، فتواتر العظة البالغة ـ إذا ـ حجة بالغة على طول الخط ، وقد تؤثر في قوم لدّ : (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (١٩ : ٩٧) ـ (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (٣٦ : ٦) ـ (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣٢ : ٣) فالنهي فرض رباني نؤديه على أية حال لنبلغ إلى ربنا عذرنا بما أدينا من واجبنا ، ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية القاسية الجاسية فيثير فيها حراس التقوى بعد مراس الطغوى.
ذلك ، فكل من (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) و (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) موجب بنفسه واجب الأمر والنهي على أية حال ، واشتراط احتمال التأثير في فرض الأمر والنهي لا يعدو الخيال مهما أفتى به جموع من هؤلاء الذين لا تهمهم النصوص القرآنية ، ماشين وراء الشهرات والإجماعات مهما خالفت نصوص الكتاب! ، ولا يفلت عن واجب الأمر والنهي إلا في ظروف الحفاظ على الأهم القاطع الناصع ، وما سواها على سواء في فرضهما ، سواء أيقن بالتأثير ، أم ظن أو شك أو احتمل أو لم يحتمل ، فإن الواقع أوسع من احتماله ، وعلى فرض العلم بالواقع فهما حجة على الخاطئين لكيلا يقولوا علنا نتأثر بكرور العظة البالغة.
والقول : إن الجمع بين الأمرين هو الذي يفرض النهي ، دون كل واحد منهما ، مردود بأن (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ـ إذا ـ كاف ، فإن النهي عنده عذر كاف ، فليكن كلّ منهما مستقلا في فرض النهي ، والأصل العام هو