من نازعه فيهما من عباده ، ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) اعترضته الحمية ، فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصب عليه لأصله ، فعدو الله إمام المتعصبين ، وسلف المستكبرين ، الذي وضع أساس العصبية ، ونازع الله رداء الجبرية ، وأدرع لباس التعزز ، وخلع قناع التذلل.
ألا ترون كيف صغّره الله بتكبره ، ووضعه الله بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحورا ، وأعدّ له في الآخرة سعيرا ، ولو أراد الله أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياءه ، ويبهر العقول رواءه ، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه لفعل ، ولو فعل لظّلت له الأعناق خاضعة ، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة ، ولكن الله سبحانه ابتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم ، ونفيا للاستكبار عنهم ، وإبعادا للخيلاء منهم ـ
فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس ، إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ، وقد كان عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة عن كبر ساعة ـ فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟ كلّا! ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا ، إن حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد ، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرّمه على العالمين.
فاحذروا عباد الله عدو الله أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزكم بندائه ، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله ، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد ، وأغرق لكم بالنزع الشديد ، ورماكم من مكان قريب وقال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) قذفا بغيب بعيد ، ورجما بظن غير مصيب ، صدّقه به أبناء الحمية ، وإخوان العصبية ، وفرسان الكبر والجاهلية ، حتى إذا انقادت له الجامحة منكم ، واستحكمت الطاعية منه فيكم ، فنجمت الحال من السر الخفي إلى الأمر