الذى لا يتطرق إليه الشك هو أن مصنفاته كانت مصدرا هاما للغاية فى معرفة العرب بالدولة البيزنطية بل وتقدم لنا لأول مرة معلومات مباشرة ومفصلة عن الصقالبة وجيرانهم. ويمكن أن نقرر وفقا لرأى بارتولد أن مادته قد تناقلها جميع الجغرافيين المتأخرين حتى القرن الثالث عشر فى جميع العالم الإسلامى (١٠٢) دون أن يشيروا إلى مصدرها. ويظهر أن تسمية البحر الأسود ببحر الخزر ترجع إليه ؛ وهو قد عرف الصقالبة كجيران لمقدونيا من ناحية الغرب وميز عنهم البرجان أو بلغار الطونة كجيران لتراقيا من ناحية الغرب ولمقدونيا من ناحية الشمال.
وبعد نصف قرن تقريبا من مسلم الجرمى وذلك فى حوالى عام ٢٨٨ ه ـ ٩٠٠ وجد فى أسر البيزنطيين هارون بن يحيى الذى حفظ لنا حقائق هامة خاصة وصفه القيم للقسطنطينية فى ذلك العهد. ويبدو أن محيط معلوماته كان أضيق بعض الشىء من محيط مسلم الجرمى ؛ ولكن مما يزيد فى أهمية روايته أنه قد حفظ لنا قطعة كبيرة منها الجغرافى ابن رستة (١٠٣) ، كما توجد مقتطفات منها لدى القزوينى (١٠٤). وكان هارون بن يحيى قد وقع فى أسر قراصنة من أهل أطاليه Attaleia بآسيا الصغرى وذلك قرب عسقلان بفلسطين فساقوه بحرا وبرا إلى القسطنطينية وامتدت إقامته بعض الوقت زار خلاله رومه عن طريق سلانيك كما زار أيضا أرض الصقالبة والبندقية ؛ وفى رومة حصل على معلوماته عن برغنديا والفرنجة وبريطانيا. وينصب الجزء الأساسى من روايته على وصف القسطنطينية ، وقد لفت النظر إليه حتى قبل طبع كتاب ابن رسته المستشرق الروسى روزن Rosen فنشر النص مع ترجمة روسية منذ عام ١٨٧٩ (١٠٥) وكتب عنه مقالا فى عام ١٨٨٧ (١٠٦). وفى القرن العشرين أخضع ماركفارت (١٠٧) الرواية جميعها لفحص دقيق ، كما أن علماء البيزنطيات وجهوا اهتمامهم فى الأعوام الأخيرة إلى وصفه للقسطنطينية (١٠٨). هذا وقد ظهرت أبحاث عديدة واختلافات فى وجهات النظر حول الفترة التى يرجع إليها وصفه هذا ، فالبعض يميل إلى نسبته إلى عام ٩١٢ (١٠٩) ، هو فرض بعيد الاحتمال (١١٠). ومما يلفت النظر أنه إذا كان وصفه للقسطنطينية لا يخلو من معلومات هامة طريفة تقوم على الملاحظة المباشرة فإن وصفه لرومة على عكس ذلك يقتصر على إيراد «العجائب» Mirabilia ويمثل رواية نقلية ترتفع إلى مصادر مسيحية شرقية ، على أغلب الظن سريانية ؛ وهذا الحكم يصدق على رواية بقية الجغرافيين العرب عن رومة (١١١).
وقد لعبت السفارات إلى جانب الأسرى دورا ملحوظا فى توسيع نطاق المعلومات الجغرافية ؛ ولم تكن أخبار هذه السفارات حتى فى القرن التاسع نفسه شيئا نادرا ولكن فيما يتعلق بالمغرب الإسلامى يجب أن نخص بالعناية شخصية حفظت لنا عنها معلومات جمة تلكم هى شخصية يحيى بن الحكم البكرى (١٥٣ ه ـ ٢٥٠ ه ـ ٧٧٠ ـ ٨٦٤) الملقب بالغزال لجماله والذى لعب دور الدبلوماسى مرتين. وهو شاعر فنان وعلى معرفة بعدد من اللغات ، وكان أمير قرطبة عبد الرحمن الثانى قد وجهه إلى بلاد الشمال ، إلى جتلاندJutland على ما يبدو ، لمفاوضة النورمان. الذين أغاروا قبل ذلك بقليل فى