ويجب قبل كل شىء ملاحظة أن القصة قد وصلت إلينا فى رواية جديرة بالثقة ، فابن خرداذبه يرويها لنا بألفاظ سلام نفسه (١٥٩) ويوكد فى آخر روايته (١٦٠) أنه قد سمعها فى بداية الأمر من سلام ثم أمليت عليه من التقرير الذى رفعه سلام إلى الخليفة (١٦١). ومما يدعم صحة هذه الرواية قول المقدسى عن ابن خرداذبه بصدد هذا : «لأنه كان وزير الخليفة وأقدر على ودائع علوم خزانة أمير المؤمنين» ، هذا إلى جانب أنه قد سمعها مباشرة من صاحبها (١٦٢). وقد نالت القصة انتشارا واسعا فى الأدب الجغرافى العربى ورواها الجغرافيون المتقدمون والمتأخرون مع تفاوت فى التفاصيل ، مثل ابن رسته (١٦٣) وياقوت (١٦٤) وأبى حامد الغرناطى والإدريسى (١٦٥) والقزوينى (١٦٦) والنويرى (١٦٧) وغيرهم. وحفظ لنا الإدريسى بضعة تفاصيل منها وجدت على ما يظهر فى المسودة الأصلية لابن خرداذبه (١٦٨) التى لم تصل إلينا ، وسقطت من موجز كتابه الموجود بين أيدينا الآن.
وكان الدافع إلى إرسال هذه السفارة دافعا خياليا بحتا كنفس الدافع الذى جعل الخليفة يبعث محمد بن موسى الفلكى ليستقصى خبر أهل الكهف. فقد تراءى للخليفة فى المنام كأنما انفتح السد الذى بناه الإسكندر ذو القرنين ليحول دون تسرب يأجوج ومأجوج ؛ ولعل هذا الحلم المزعج قد سببته للخليفة الشائعات عن تحرك القبائل التركية فى أواسط آسيا نتيجة لقضاء القرغيز على دولة الأويغور حوالى عام ٨٤٠. هذا وإذا طرحنا جانبا كل التفاصيل نجد أن خط سير سلام (١٦٩) قد اتجه شمالا خلال أرمينيا وجورجيا (بلاد الكرج) إلى بلاد الخزر ، ثم اتجه من هناك شرقا إلى بحر قزوين فوصل إلى بحيرة بلقاش Balkash وجنغارياZhungaria ، وعاد من هناك إلى سامرا بالعراق مارا فى طريقه على بخارى وخراسان. وهو بلاشك قد أبصر سد القوقاز المشهور عند دربند (١٧٠) ؛ ومن ناحية أخرى فإن من الممكن جدا أن يكون قد بلغ سور الصين العظيم كما أثبت ذلك دى خويه (١٧١). ويمكن تفسير الخلط فى وصفه للحائطين بأن عصر الخوارزمى ، معاصر سلام ، قد عرف روايتين عن سدى ذى القرنين إحداهما تضعه فى الشرق والأخرى فى الشمال (١٧٢). ومن المحتمل جدا أن سلاما قد حاول إلى جانب تسجيل انطباعاته المباشرة أن يردد أيضا وفى قالب أدبى الرواية الموجودة فى القرآن (١٧٣) عن سد يأجوج ومأجوج. ومن المستحيل بالطبع تحديد ميدان تجواله بالمنطقة الواقعة بين القريم والأورال كما فعل منذ عهد غير بعيد العالم الهنغارى زيتشى Zichy (١٧٤) الذى أبصر فى السد ممرا من ممرات جبال الأورال حصنته البلغار (١٧٥). وأحد كبار العلماء المحدثين وهو خبير فى الجغرافيا التاريخية لأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى يختتم كلامه عن سلام بقوله : «لا يوجد أدنى شك فى أن سلاما قام فى حوالى عام ٨٤٢ ـ ٨٤٣ مرحلة عبر فيها القوقاز ، وأرض الخزر متجها صوب الشرق ، ثم مر فى طريقه على برسخان وطراز (تالاس) وسمرقند راجعا إلى خراسان ؛ وهو قد أبصر بالفعل فى هذه الرحلة حائطا أو ممرا جبليا يشبه الحائط» (١٧٦). وبهذا يمكن القول بأن سلاما قد ظفر أخيرا ببعض الثقة لدى الدوائر العلمية.