وفى الفترة التاريخية التى نعالجها فى هذا الفصل كان الطريق البحرى إلى الصين يعتبر أسهل الطرق المؤدية إلى تلك البلاد من أماكن نائية كسمرقند. ويحكى لنا المسعودى (٢٠٤) أن أحد «التجار من أهل سمرقند من بلاد ما وراء النهر خرج من بلاده ومعه متاع كثير حتى أتى العراق فحمل من جهازها وانحدر إلى البصرة وركب البحر حتى أتى بلاد عمان وركب إلى كلّة وهى النصف من طريق الصين أو نحو ذلك ... ثم ركب هذا التاجر من مدينة كلة فى مراكب الصينيين إلى مدينة خانفوا وهى مرسى المراكب». وبسبب إساءة لحقته عند جمع المكوس فقد سافر هذا التاجر إلى خمدان (٢٠٥) شاكيا فظفر باستخلاص حقوقه (٢٠٦). وهكذا فإن الطريق الذى سلكه هذا السمرقندى يتفق بوجه عام مع الطريق الذى سافر به التاجر سليمان أو ابن وهب ؛ ومن المؤكد أن هذه الرحلة من آسيا الوسطى إلى الصين لم تكن الوحيدة من نوعها.
ولا يوجد ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن هذا الطريق البحرى قد طغى على الطريق البرى نهائيا فى ذلك العصر ، فالمسعودى يحكى كذلك :
«وقد رأيت يبلخ شيخا جميلا ذا رأى وفهم وقد دخل الصين مرارا كثيرة ولم يركب البحر قط وقد رأيت عدة من الناس ممن سلك من بلاد الصغد على جبال النوشادر إلى أرض التبت والصين (٢٠٧)». وهذا الطريق الأخير تعرفه المصادر الصينية أيضا (٢٠٨). ومن العسير أن نحدد بالدقة أى طريق سلكه إلى الصين بعد قليل من ذلك الراهب النجرانى الذى التقى به فى عام ٣٧٧ ه ـ ٩٨٧ صاحب كتاب «الفهرست» وحفظ لنا عددا من حكاياته بلسانه ؛ وهو يبدأ فصلا من كتابه بالطريقة الآتية :
«مذاهب أهل الصين وشىء من أخبارهم : ما حكاه لى الراهب النجرانى الوارد من بلد الصين فى سنة سبع وسبعين وثلثمائة هذا الرجل من أهل نجران أنفذه الجاثليق منذ نحو سبع سنين إلى بلد الصين وأنفذ معه خمسة أناسى من النصارى ممن يقوم بأمر الدين فعاد من الجماعة هذا الراهب وآخر بعد ست سنوات فلقيته بدار الروم وراء البيعة فرأيت رجلا شابا حسن الهيئة قليل الكلام إلا أن يسئل فسألته عما خرج فيه وما السبب فى إبطائه طول هذه المدة فذكر أمورا لحقته فى الطريق عاقته وأن النصارى الذين كانوا ببلد الصين فنيوا وهلكوا بأسباب وأنه لم يبق فى جميع البلاد إلا رجل واحد وذكر أنه كان لهم بيعة خربت قال فلما لم أر من أقوم لهم بدينهم عدت فى أقل من المدة التى مضيت فيها فمن حكاياته قال إن المسافات فى البحر قد اختلفت وفسد أمر البحر وقلّ أهل الخبرة به وظهر فيه آفات وخوف وجزائر قطعت المسافات إلا أن الذى يسلم على الغرر يسلك» (٢٠٩).
والملاحظات الأخيرة التى يمكن أن يحس منها أنها ثمرة تجربة شخصية تدفع إلى الاعتقاد بأن الرحلة قد تمت على أية حال بطريق البحر.
إن حكايات الراهب النجرانى مقتضبة فى الواقع ولكنها تبلغ حد الطرافة (٢١٠) بالنسبة للتاريخ الحضارى