المعروف لنا جيدا ، أعنى بذلك ذكر مناقب الأماكن المختلفة استنادا إلى الأحاديث النبوية. ونادرا ما تكون المادة الجغرافية فيها سهلة المأخذ إذ يجب انتزاعها انتزاعا من الروايات والأخبار التى قلّ أن تمس المسائل التى نعالجها. وعلى أية حال فإنه يلاحظ فى هذا الميدان ميلاد أشكال جديدة حية تتعلق بالقواعد الجغرافية العامة ، بل إنه أنتج لنا فى القرن العاشر مصنفا هاما ؛ ومن العسير أن نستعرض جميع أمثلته ونماذجه ولكن من الضرورى أن نعطى فكرة عامة عن أشكاله المختلفة.
ومن الطبيعى أن يتجه اهتمام العلماء فى ظروف ذلك العهد إلى «المدن المقدسة» ، كما اتجه اهتمام اللغويين من قبل إلى بلاد العرب. ونلتقى فى القرن التاسع بمؤلّفين على الأقل كتبا فى تاريخ مكة ، أحدهما هو الأزرقى (المتوفى عام ٢٤٤ ه ـ ٨٥٨) (٦١) والآخر الفاكهى (المتوفى حوالى عام ٢٧٢ ه ـ ٨٨٥) (٦٢) ، وينحدر الأول من أسرة تنتسب إلى آل غسّان وتربطها الرواية بالحديث النبوى. وهذا النوع من المصنفات فى تواريخ المدن انبعث نتيجة لاهتمام المسلمين بالأماكن المقدسة وحاجتهم إلى مصنف يكون أشبه بدليل جغرافى للتعريف بنواحيها ووصف الشعائر الدينية المرتبطة بهذا. وقد أسبغت عليها الأساطير القديمة التى ترجع إلى التوراة والتلمود طابعا مميزا فهى تتكون غالبا من مقدمة يليها وصف الكعبة وتاريخها المتأخر ووصف الأبنية المحيطة بها ، ثم يعقب هذا تعداد الدروب والأحياء بمكة مع ذكر عدد كبير من الأسماء ؛ أما المادة الجغرافية فضئيلة للغاية ولكنها ذات قيمة كبرى بالنسبة لتاريخ نشأة مكة ونموها (٦٣). وقد تعاقب بعد الأزرقى عدد من المؤلفين كانوا متممين لعمله وتمتعت مؤلفاتهم بالشهرة عند الجمهور إلى الآونة الأخيرة. ويرجع الفضل فى إلمامنا بهذا الفرع من الأدب إلى أبحاث فستنفلد الذى نشر «أخبار مكة» فى أربعة أجزاء (١٨٥٧ ـ ١٨٦) ختمها بآخر ممثل لهذا النمط الجغرافى وهو النهروالى من أهل القرن السادس عشر (توفى عام ٩٩٠ ه ـ ١٥٨٢) (٦٤)
والطابع الغالب على تواريخ المدن هو أن تحتوى المقدمة على الجانب الجغرافى الذى يعطى وصفا طوبوغرافيا للمدينة ، بينما تتحكم فى بقية مادة الكتاب السّير ، أى تراجم حياة المشاهير من أهل تلك المدينة. ومن العسير الجزم هل وجدت مثل هذه المقدمة عند أول مؤرخ لبغداد وهو أحمد بن أبى طاهر طيفور (توفى عام ٢٨٠ ه ـ ٨٩٣) (٦٥) ، إذ لم يعثر إلى الآن سوى على الجزء السادس من تاريخه وهو يحوى مادة تاريخية صرفة. ومثل هذه المقدمة موجودة عند خلفه المشهور الخطيب البغدادى (توفى عام ٤٦٣ ه ـ ١٠٧١) (٦٦) الذى يقدم لنا فى «تاريخ بغداد» تراجم لنحو من ثلاثين وثمانمائة وسبعة آلاف شخص فى أربعة عشر جزءا. وهذه المقدمة تمثل بالتقريب جميع المادة الجغرافية للكتاب ، وقد بينت أهميتها بالنسبة لتاريخ تخطيط المدينة الترجمة الفرنسية التى قام بها سلمون Salmon (١٩٠٤). واستخراج المادة الجغرافية من هذا النوع من المصنفات لا يمثل على الدوام جهدا يسيرا ، ويصدق هذا بصورة خاصة على أضخم مصنف من هذا النوع فى الأدب العربى ، أعنى «تاريخ دمشق» فى ثمانى عشر