فعالا فى هذا الصدد مواطن لدى خويه من المعاصرين لنا ، أعنى بهذا كرامرس Kramers الذى ندين له فى الأعوام الأخيرة نمجهود جبار فى إلقاء ضوء على هذه المسألة التى ما تزال على الرغم من كل ذلك مستعصبة على الحل.
ومما يزيد فى وعورة المسألة قلة المعلومات عن المؤلفين أنفسهم. فالمؤلف الأول ، أى الذى لم يصلنا كتابه بطريقة مباشرة ، هو الوحيد الذى توجد لدينا عنه بعض المعلومات الصحيحة. وعلى النقيض من ذلك الوضع مع المؤلفين الآخرين اللذين وصل إلينا مصنفاهما ، فإنه لم يمكن العثور إلى الآن على أية أخبار عنهما فى المصادر الموجودة بين أيدينا. والمصنف الذى تبدأ به هذه السلسلة ندين به إلى عالم معروف لعصره هو أبو زيد أحمد بن سهل البلخى الذى ولد حوالى عام ٢٣٥ ه ـ ٨٥٠ بإحدى قرى بلخ وبدأ نشاطه كمعلم ثم اضطره الاهتمام بدراسة العلوم الشرعية إلى القيام برحلة إلى بغداد مركز الحضارة آنذاك فأقام بها ثمانى سنوات أدى فى خلالها على ما يبدو فريضة الحج ؛ ولم تلبث ميوله أن اتخذت اتجاها مغايرا لما كان عليه الحال فى شبابه فقد وقع تحت تأثير الفيلسوف المعروف الكندى (توفى بعد عام ٢٥٦ ه ـ ٨٧٠) وأصبح من ألزم تلامذته به. وهكذا مر البلخى على نفس المدرسة التى مر بها السرخسى من قبل ، وهو أحد مؤلفى المصنفات الجغرافية المعروفين لنا. وعند رجوعه إلى بلخ لم يغادرها مرة أخرى واشتغل خاصة بمسائل الفلك والفلسفة كأستاذه الكندى وضعف لديه الاهتمام بعلوم الشريعة ، بل ثار الشك حينا فى صحة عقيدته. وقد حدث أن قامت بينه وبين الجيهانى الجغرافى وزير السامانيين علاقة وطيدة حتى نصحه الأخير بالمجىء إلى بخارى ولكنه امتنع. وشغل البلخى فترة من الزمن وظيفة كاتب لأمير بلخ أحمد بن سهل (حوالى عام ٣٠٧ ه ـ ٩١٩ ـ ٩٢٠) الذى لم يحكم لوقت طويل ؛ وكان البلخى بوجه عام يعتبر نفسه عالما وأديبا من المشتغلين بالتأليف ؛ وارتبط اسمه بما يقرب من ستين مصنفا لا نعرف منها إلا أسماءها ، أو وجدت فى مخطوطات نادرة لم تفحص بعد. أما المصنف الضخم «كتاب البدء والتاريخ» الذى نسبه ناشره الأوروبى فى بداية الطبعة إلى البلخى نتيجة لسهو ساقته إليه بعض المصادر فقد وضح بالتالى أنه من وضع مؤلف عاش فى آخر القرن العاشر هو مطهر بن طاهر المقدسى.
وفى شيخوخته وذلك حوالى عام ٣٠٨ ه ـ ٣٠٩ ه ـ ٩٢٠ ـ ٩٢١ وضع البلخى مصنفه فى الجغرافيا الذى تختلف أسماؤه باختلاف المصادر ، فهو مرة «صور الأقاليم» وحينا «أشكال البلاد» وتارة «تقويم البلدان» ؛ وهذا التباين فى العنوان يدل على أن الكتاب لم يكن فيما يبدو معروفا فى صورته الأصلية حتى فى العهد القريب من عهد المؤلف. وهو يمثل شيئا أشبه بالأطلس مصحوبا ببعض التوضيحات ، ويمكن الحكم عليه من ألفاظ المقدسى الذى عاش بعد ذلك بنحو نصف قرن والذى لا تزال ألفاظه هذه مصدرنا الأساسى للتعريف بكتاب البلخى :
«وأما أبو زيد البلخى فإنه قصد بكتابه الأمثلة وصورة الأرض بعد ما قسمها على عشرين جزءا