«وكان أكثر ما حدانى على هذا الكتاب وتأليفه على هذه الصورة أنى كنت فى حالة الحداثة شغفا بأخبار البلدان والوقوف على حال الأمصار كثير الاستعلام والاستخبار لسافرة النواحى ووكلاء التجار وقرأة الكتب المؤلفة فيها وكنت إذا لقيت الرجل الذى أظنه صادقا وإخاله بما أسأله عنه خبيرا فأجده عالما عند إعادة الخبر الذى اعتقد فيه صدقه وقد حفظت نسقه وتأملت طرقه ووصفه وأكثر ذلك باطلا وأرى الحاكى بأكثر ما حكاه جاهلا ثم أعاوده الخبر الذى ألتمسه منه والذكر ليسمع الذى استوصفته وأطالع معه ما صدر مع غيره فى ذلك بعد رؤية وأجمع بينهما وبين حكاية ثالث بالعدل والسوية فتتنافر الأقوال وتتنافى الحكايات وكان ذلك داعية إلى ما كنت أحسه فى نفسى بالقوة على الأسفار وركوب الأخطار ومحبة تصوير المدن وكيفية مواقع الأمصار وتجاور الأقاليم والأصقاع. وكان لا يفارقنى كتاب ابن خرداذبه وكتاب الجيهانى وتذكرة أبى الفرج قدامة بن جعفر وإذا الكتابان الأولان قد لزمنى أن أستغفر الله من حملهما واشتغالى بهما عن ما يلزمنى من توخى العلوم النافعة والسنن الواجبة (١٧) ولقيت أبا إسحاق الفارسى وقد صور هذه الصورة لأرض الهند فخلطها وصور فارس فجودها وكنت قد صورت أذربيجان التى فى هذه الصفة فأستحسنها والجزيرة فاستجادها وأخرج التى لمصر فاسدة وللمغرب أكثرها خطأ وقال قد نظرت فى مولدك وأثرك وأنا أسألك إصلاح كتابى هذا حيث ضللت فأصلحت منه غير شكل وعزوته إليه ثم رأيت أن أنفرد بهذا الكتاب وإصلاحه وتصويره أجمعه وإيضاحه من غير أن ألم بتذكرة أبى الفرج وإن كانت حقا بأجمعها وصدقا من سائر جهاتها وقد كان يجب أن أذكر منها طرفا فى هذا الكتاب لكن استقبحت الاستكثار بما تعب فيه سواى ونصب فيه غيرى» (١٨).
وتحت تأثير هذه الظروف تم تأليف كتاب ابن حوقل ؛ وهو أيضا يحيط بمسوداته الكثير من اللبس ، ويحمل فى العادة عنوان «كتاب المسالك والممالك» بالرغم من أنه قد حفظت لنا أحيانا تسمية أخرى ترتبط بالحلقة الأساسية لهذه السلسلة وهى «كتاب صورة الأرض». وقد رفع ابن حوقل المسودة الأولى من مصنفه إلى سيف الدولة الحمدانى (توفى عام ٣٥٦ ه ـ ٩٦٧) ، وترجع المسودة الثانية إلى حوالى عام ٣٦٧ ه ـ ٩٧٧ (١٩). وتمثل خطوه إلى الأمام بالنسبة للطبعة الأولى (editio Princeps) لدى خويه تلك الطبعة الثانية التى نشرها كرامرس Kramers لأقدم مخطوطة لابن حوقل وهى مخطوطة استنبول التى يرجع تاريخها إلى عام ٤٧٩ ه ـ ١٠٨٦ أى بعد مائة عام من تأليف الكتاب. ويميل كرامرس إلى القول بوجود ثلاث مسودات للكتاب مع فوارق يسيرة بين الأولى والثالثة (٢٠).
والدراسة المباشرة لهذا الأثر توكد صحة ما ذكره ابن حوقل فى قصته عن مقابلته للاصطخرى ، فلدى مقارنته مع كتاب الأخير نجد أن يد التغيير والتبديل قد مست بصورة كبيرة الأقسام المفردة لمصر وأفريقيا وأسبانيا وصقلية كما أنه أجرى تعديلا أساسيا فى الأقسام الخاصة بالعراق وأرمينيا وما وراء النهر ، بينما تركت الأقسام المتعلقة بإيران بالذات دون أدنى تغيير. وقد ترسم ابن حوقل خطى السابقين