غير أن الأمر جد مختلف فيما يتعلق بالجغرافيا الوصفية ، فأوروبا المسيحية قد ترجمت عن طيب خاطر مؤلفات العرب فى الرياضيات والفلك والكيمياء إلى اللغة اللاتينية ، إلا أن الاهتمام بالجغرافيا أو التاريخ كما هو الحال أيضا مع الأدب فى المدلول الخاص لهذا اللفظ قد انعدم تماما (٢٨). وحتى الآن لم يعثر على أى أثر لترجمات لمصنفات الجغرافيين والرحالة العرب فى الفترة الأولى من القرون الوسطى الأوروبية ، ويبدو أنه لم تمكن هناك معرفة مباشرة بهم بعكس الحال مع الفلكيين (٢٩). إلا أن هذا لا يعنى أن موضوعات منفصلة ، خاصة من محيط القصص والجغرافيا الأسطورية لم تجد طريقها من العرب إلى أوروبا ؛ ويكفى فى هذا الصدد أن نتذكر حكاية أسفار القديس براندان Brandan التى تضم بين دفتيها كمية وافرة من العناصر الشرقية (٣٠). وواحدة من الحالات النادرة التى أثرت فيها النظريات الجغرافية العربية تأثيرا مباشرا على التفكير الأوربى فى العصور الوسطى تمس محيط الكارتوغرافيا أكثر من غيره ؛ فمارينو سانودوMarino Sanudo ، وهو إحدى الشخصيات الأوروبية النشطة فى بداية القرن الرابع عشر ، قد زود مصنفه «كتاب الأرض المقدسة» Opus Terrae Sanctae (١٣٢١) بخارطة للعالم لتوضيح فكرته المبتكرة التى ترمى إلى محاصرة العالم الإسلامى حصارا اقتصاديا (٣١). وهذه الخارطة على هيئة دائرة مركزها أورشليم ومبين عليها بوضوح بحران كبيران متصلان بالبحر المحيط ، كما يظهر عليها ساحل أفريقيا ممتدا امتدادا بعيدا نحو الشرق (٣٢). فهى إذن تكرار لجميع الخطوط الرئيسية المميزة لخارطة العالم فى «أطلس الإسلام» ، مع اختلاف بسيط هو أن مركز الأخير ليس أورشليم بل مكة بالطبع. ومثل هذا الاتفاق أبعد من أن يكون من عمل الصدفة ، خاصة إذا أخذنا فى الاعتبار أن اهتمام سانودو بالشرق يجيز احتمال معرفته بالمصادر العربية. وعلى أى فهذه الحالة فريدة فى نوعها وتقف بمفردها دليلا على فقدان الاهتمام فى أوروبا بالجغرافيا الوصفية عند العرب عامة.
ولما بدأ العلم الأوروبى اتصاله المباشر بالأصول العربية أخذ الاهتمام بالجغرافيا الوصفية يعادل الاهتمام بالجغرافيا الفلكية. وكان بوستل Postell (٣٣) أول مستشرق يجتذبه الجغرافى العربى أبو الفدا ؛ كما أن أول ذكر لياقوت يرد فى محاضرة بتاريخ ٢٠ ديسمبر ١٧٠٢ ليعقوب جيونوفيس Jacobus Gionovius (٣٤). وفى عام ١٥٩٢ طبع بمطبعة المديتشى Medici المشهورة أول نص فى الجغرافيا الوصفية ، وهو كتاب اكتسب بالتالى صيتا عريضا أعنى بذلك مصنف الجغرافى العربى المغربى المشهور الشريف الإدريسى الذى عاش فى القرن الثانى عشر. وقد جانب التوفيق الناشر حين أعطى الكتاب عنوانا مضللا هو «جغرافيا النوبى» Geographia Nubiensis (١) ، مما ساق بالتالى إلى غير
__________________
(*) أعتقد أن ألفاظ المؤلف هنا قد تسوق إلى اللبس إذ يفهم منها أن هذا العنوان الخاطىء للكتاب تحمله طبعة عام ١٥٩٢ لا ترجمة عام ١٦١٩. راجع على أية حال كلامه عن الإدريسى فى الفصل العاشر. (المترجم)