ولم يعرف لهذا المصنف إلى الآن أية مخطوطات ، ولكنه كان معروفا معرفة جيدة للمؤلف التالى لهذا ، كما نقل عنه آخرون شذورا ضخمة (١). وقد كان العذرى أستاذا للبكرى (١٠) المشهور الذى سيرد الكلام عليه بعد حين فى شىء من التفصيل لذا فليس من الغريب أن يمثل مصنفه مصدرا من المصادر الأساسية لمصنفات البكرى فى ميدان الجغرافيا ؛ كما وقد استعار منه الكوزموغرافى القزوينى كل المادة المتعلقة بأسبانيا (١١) وأوروبا الغربية (١٢) تقريبا ورجع إليه الإدريسى (١٣) وعرفه ياقوت جيدا. ففى وصفه لموطنه دلايةDalias من أعمال المريةAlmaria ينقل عنه بتفصيل واف (١٤). ورغما من معرفته بعنوان الكتاب (١٥) إلا أنه فيما يبدو لم يستعمله استعمالا مباشرا ، والمرة الوحيدة التى يتحدث فيها عنه كانت بمناسبة الكلام على تلميذه ابن حزم (١٦). إزاء ذلك نجد من الصعب علينا إعطاء وصف لهذا الكتاب فى مجموعه ؛ ومن ثنايا القطع المنقولة عنه يتضح أحيانا أن اهتماما كبيرا قد أفرد فيه لمختلف أنواع العجائب Mirabilia (١٧). وأعتقد أن الكتاب لم يقتصر على الأندلس وحدها كما ظن البعض ، فالقطع التى نقلها عنه باقوت مثلا تمس فى الواقع مدينة مكة. أما انتماء الكتاب إلى نمط المسالك والممالك فأمر لا ريب فيه ولكن هذا لا يعنى أنه ارتبط ارتباطا مباشرا بالمدرسة الكلاسيكية للجغرافيا بالمشرق إذ أن هذا النمط قد خضع لتعديل جوهرى بالأندلس كما سيتضح لنا عند الكلام على تلميذه المشهور البكرى.
وقبل أن ننتقل إلى الكلام عن الأخير نلزمنا أن نوكد مرة أخرى ضرورة رفض الزعم القائل بوجود شخص قائم بذاته يدعى ابراهيم الطرطوشى كما افترض ياكوب Jacob (١٨) عند كلامه على الرحالة الذى زار ألمانيا وأرض الصقالبة ؛ ومما زاد فى اللبس أكثر أن كرامرس Kramers يرجعه إلى القرن الحادى عشر ويجعل تاريخ وفاته تاريخ وفاة العذرى (٤٧٨ ه ـ ١٠٨٥) (١٩). وكما رأينا فى حينه فقد أثبت كوفالسكى Kovaleski أن إبراهيم الطرطوشى هو فى حقيقة الأمر إبراهيم بن يعقوب نفسه الذى قام برحلة فى النصف الثانى من القرن العاشر ، أما القول بوجود مؤلفين يحملان اسما واحدا فهو قول يجب إطراحه نهائيا.
وأبو عبيد عبد الله البكرى هو «أكبر جغرافى أخرجته الأندلس زقاطبة» كما قال دوزى Dozy (٢٠). وقد تعرف عليه الاستشراق الروسى أساسا بفضل حفظه لشذرات من مذكرات إبراهيم بن يعقوب الذى مر ذكره للتو. وبحث كونيك Kunik وروزن Rosen الذى اعتبر فتحا جديدا بالنسبة لعصرهما قد أسدل الستار قليلا على النواحى الأخرى لشخصية البكرى ، فلم يتذكره الناس إلا بعد طبع مصنفاته الأدبية فى الآونة الأخيرة. وكان البكرى تلميذا للعذرى وابن عبد البر ، ومن هذا الأخير تسلم إجازته
__________________
(*) عثر الأستاذ المصرى عبد العزيز الأهوانى على نص للعذرى فى جغرافيا الأندلس والظاهر أنه ناقص. وهو يعمل على تحضيره للصبع. (المترجم)