«فمن بعض معارفه السنية ونزعاته الشريفة العلوية أنه لما اتسعت أعمال مملكته وتزايدت همم أهل دولته واطاعه البلاد الرومية ودخل أهلها تحت طاعته وسلطانه أحب أن يعرف كيفيات بلاده حقيقة ويقتلها يقينا وخبرة ويعلم حدودها ومسالكها برا وبحرا وفى أى إقليم هى وما يخصها من البحار والخلجان الكاينة بها مع معرفة غيرها من البلاد والأقطار فى الأقاليم السبعة التى اتفق عليها المتكلمون وأثبتها فى الدفاتر الناقلون والمؤلفون ، وما لكل إقليم منها من قسم بلاد يحتوى عليه ويرجع إليه ويعدّ منه بطلب ما فى الكتب المؤلفة فى هذا الفن من علم ذلك كله مثل كتاب العجائب للمسعودى وكتاب أبى نصر سعيد الجيهانى وكتاب أبى القسم عبيد الله بن خرداذبه (٦٣) وكتاب أحمد بن عمر العذرى وكتاب أبى القسم (٦٣) محمد الحوقلى البغدادى وكتاب جاناخ بن خاقان الكيماكى وكتاب موسى بن قاسم القردى وكتاب أحمد بن يعقوب المعروف باليعقوبى وكتاب إسحق بن الحسن المنجم وكتاب قدامة البصرى وكتاب بطلميوس الأقلودى وكتاب أرسيوس الأنطاكى ، فلم يجد ذلك فيها مشروحا مستوعبا مفصلا بل وجده فيها مغفلا فأحضر لديه العارفين بهذا الشأن فباحثهم عليه وأخذ معهم فيه فلم يجد عندهم علما أكثر مما فى الكتب المذكورة ، فلما رآهم على مثل هذه الحال بعث إلى سائر بلاده فأحضر العارفين بها المتجولين فيها فسألهم عنها بواسطة (٦٤) جمعا وأفرادا فما اتفق فيه قولهم وصح فى جمعه نقلهم أثبته وأبقاه ، وما اختلفوا فيه ألغاه وأزجاه ، وأقام فى ذلك نحوا من خمس عشرة سنة لا يخلى نفسه فى كل وقت من النظر فى هذا الفن والكشف عنه والبحث عن حقيقته إلى أن تم له فيه ما يريده ثم أراد أن يستعلم يقينا صحة ما اتفق عليه القوم المشار إليهم فى ذكر أطوال مسافات البلاد وعروضها (٦٥) فأحضر إليه لوح الترسيم (٦٦) وأقبل يختبرها بمقاييس (٦٧) من من حديد شيا فشيا مع نظره فى الكتب المقدّم ذكرها وترجيحه بين أقوال مولفيها وأمعن النظر فى جميعها حتى وقف على الحقيقة فيها فأمر عند ذلك أن يفرغ له من الفضة الخالصة دائرة مفصلة (٦٨) عظيمة الجرم ضخمة الجسم فى وزن أربعمائة رطل بالرومى فى كل رطل منها مائة درهم واثنا عشر درهما (٦٩) فلما كملت أمر الفعلة أن ينقشوا فيها صور الأقاليم السبعة ببلادها وأقطارها وسيفها وريفها وخلجانها وبحارها ومجارى مياهها ومواقع أنهارها وعامرها وغامرها وما بين كل بلد منها وبين غيرها من الطرقات المطروقة والأميال المحدودة والمسافات المشهودة والمراسى المعروفة على نص ما يخرج إليهم ممثلا فى لوح الترسيم ولا يغادروا منه شيئا ويأتوا به على هيئته وشكله كما يرسم لهم فيه وأن يولفوا كتابا مطابقا لما فى أشكالها غير أنه يزيد عليها بوصف أحوال البلاد والأرضين فى خلقها وبقاعها وأماكنها وصورها وبحارها وجبالها وأنهارها ومواتاتها ومزروعاتها وغلاتها وأجناس بنائها وخواصها والاستعمالات التى تستعمل بها والصناعات التى تنفق بها والتجارات التى تجلب إليها وتحمل منها والعجائب التى تذكر عنها وتنسب إليها وحيث هى من الأقاليم السبعة مع ذكر أحوال أهلها وهيئاتهم وخلقهم ومذاهبهم وزينهم وملابسهم ولغاتهم وأن يسمّى هذا الكتاب بنزهة المشتاق فى اختراق الآفاق وكان ذلك فى العشر الأول من ينير