البندقى ؛ وعقب هذا مباشرة أخذت تفقد أهميتها بالتدريج لهرمز على الساحل الفارسى ولم تلبث أن طواها النسيان فى آخر الأمر (٢٤).
وخلال إحدى تلك الأسفار وذلك فى عام ٥٩٦ ه ـ ١١٩٩ علم ياقوت بوفاة سيده وإعتاقه له فأصبح بذلك حرا طليقا. ومنذ تلك اللحظة استقر ببغداد واحترف نهائيا مهنة استنساخ الكتب وبيعها ، الأمر الذى يذكرنا بصاحب «الفهرست» المشهور الذى مر الكلام عليه فيما تقدم من هذا الكتاب. ولكن ياقوت لم يلبث أن بدأ تجواله ابتداء من عام ٦١٠ ه ـ ١٢١٣ ، ذلك التجوال الذى استمر ستة عشر عاما إلى لحظة وفاته ، ولم تتخلله سوى وقفات قصيرة الأمد. ويمكن تكوين فكرة عن رحلاته هذه اعتمادا على الإشارات الواردة بمعجمه ، وقد ساهم فى ذلك فستنفلد إلى حد كبير. بدأ ياقوت تجواله مارا بتبريز والموصل فى طريقه إلى الشام ومصر أولا ، وبعد ثلاثة أعوام من ذلك ، أى فى عام ٦١٣ ه ـ ١٢١٦ ، نبصره مرة أخرى بدمشق التى غادرها إلى حلب فإربل ثم أرمية فتبريز ومنها إلى إيران الشرقية. وأمضى عامين بنيسابور حيث علق قلبه حب فتاة من أهلها ، ثم غادرها إلى هرات وسرخس إلى أن بلغ مرو. وبمرو أمضى عامين متنقلا بين مكتباتها الشهيرة التى وصفها الكثيرون بحماس شديد ، ولم يلبث أن واتته فكرة الاستقرار بها نهائيا خاصة وأن فكرة وضع المعجم قد انبعثت لديه هناك فى عام ٦١٥ ه ـ ١٢١٨. وكان معتزما زيارة خوارزم وبلخ عندما تواترت إلى مسامعه أخبار خروج المغول عام ٦١٦ ه ـ ١٢١٩ ثم استيلائهم على بخارى فسمرقند ، فهرب ياقوت إلى خراسان تاركا وراءه بعض مادته العلمية وفى طريقه مر بالرى وقزوين وتبريز إلى أن بلغ الموصل فدخلها فقيرا معدما لا يملك شروى نقير غير أن عطف «الوزير الفيلسوف» (٢٥) ابن القفطى (توفى عام ٦٤٦ ه ـ ١٢٤٨) وزير السلطان الظاهر بن صلاح الدين الأيوبى صاحب حلب (٢٦) ، أمكن له فرصة العمل بضعة أعوام فى معجمه الذى لم بلبث أن أتم تسويده فى عام ٦٢١ ه ـ ١٢٢٤ ورفع أولى مخطوطاته إلى ابن القفطى (٢٧) ، وكان نازلا عليه بحلب. وفى عام ٦٢٤ ه ـ ١٢٢٧ توجه مرة أخرى إلى فلسطين ومصر ثم رجع إلى حلب وأخذ على عاتقه ابتداء من أول يناير ٦٢٥ ه ـ ١٢٢٨ تهذيب المعجم ولكن الوفاة عاجلته دون ذلك فقد انتقل إلى جوار ربه فى العام التالى لهذا وذلك فى العشرين من أغسطس عام ٦٢٦ ه ـ ١٢٢٩ بخان عند أحد أبواب حلب ولمّا يتجاوز الخمسين. وقد وقف كتبه على مسجد ببغداد وكلف بتنفيذ وصيته هذه صديقه المؤرخ المعروف ابن الأثير (٢٨) فحملها إلى هناك. وخلال عام من وفاته زار حلب مؤلف كتاب التراجم المشهور ابن خلكان وذكر أن أهل العلم كانوا لا يزالوا يثنون عليه ويتذكرون فضله وأدبه (٢٩). وأمام الظروف القاسية التى اكتنفت الأعوام الأخيرة من حياته يجب أن نعجب لا للعدد الضئيل من الأخطاء الذى وجد الطريق إلى مصنفاته بل لعدد هذه المصنفات الكبير وقيمتها العالية التى لا يتطرق إليها الشك. ويحتل المكانة الأولى بينها من وجهة نظرنا دون منازع معجمه الجغرافى الكبير الذى سنقصر حديثنا عليه الآن.