لقد انبعثت فكرته كما رأينا بمرو عام ٦١٥ ه ـ ١٢١٨ ، ويبدو لنا الطابع المميز للكتاب من الظروف التى أحاطت بتأليفه (٣٠). فقد حدث أن جمع ياقوت مجلس للإمام السمعانى ابن صاحب كتاب الأنساب المشهور ودار الكلام حول اسم موضع بالجزيرة العربية ورد ذكره فى الحديث وهو حباشة. وقد دلل ياقوت معتمدا فى ذلك على اشتقاق اللفظ على أنه يجب نطقه هكذا ، أى بضم الحاء ؛ غير أن أحد الحاضرين أصر على نطقه حباشه بفتحها. وقد استعصى على ياقوت أن يجد مرجعا ثقة يدعم به رأيه ، مع اكتظاظ مكتبات مرو آنذاك بالمراجع ، فعجز عن العثور على الشاهد. حينئذ عقد العزم على وضع معجم جغرافى جامع يكون مرجعا عند الحاجة ولا يقتصر على تفسير الأعلام الجغرافية فحسب بل ويبين أيضا نطقها الصحيح. فهو فى جوهره إذن من نفس نمط المعاجم اللغوية التى تقابلنا منذ القرن التاسع ؛ بل إن هذا يستبين لنا من ألفاظ ياقوت نفسه عند وصفه للكتاب فى بداية مقدمته : «كتاب فى أسماء البلدان والجبال والأودية والقيعان والقرى والمحال والأوطان والبحار والأنهار والغدران والأصنام والأبداد والأوثان» (٣١) ؛ ولهذا السبب فقد أطلق عليه اسم «معجم البلدان».
وبالرغم من اتباعه لدرب مطروق سلكه قبله الكثيرون فإن ياقوت قد خشى أن يتهم بأن هدفه من وضع المعجم كان جغرافيا بحتا ، لذا فقد جهد فى أن يدعم معطياته قبل كل شىء بالشواهد من القرآن والحديث (٣٢). فهو يشير إلى أن آيات الخالق وبراهين قدرته منتثرة على الأرض بأجمعها لذا فإن قراءة الرحلات والاطلاع على وصف البلدان فيه فائدة كبرى وموعظة حسنة ، والرجل الورع ملزم بأن يتذكر ملاحظاته ويدونها أثناء أسفاره لفائدة معاصريه وفائدة الأجيال التالية. وياقوت لا يهمل التفصيل فى أهمية المعلومات الجغرافية من الناحية العملية ؛ وهو يعتقد أن النساخ وأهل الأخبار الذين يقفون من الأعلام موقفا غير نقدى كثيرا ما أثبتوا الصور الخاطئة لها (٣٣) ، هذا بينما يحتاج فى الواقع إلى ضبط الأعلام جميع صنوف الناس ، فالحكام والمشرعون يحتاجون إلى معرفة تاريخ فتح المسلمين لبلد ما وكيف تم هذا الفتح وذلك لتحديد خراج البلد. كما يجب على أهل الحديث معرفة من اشتهر من أهل بقعة ما من العلماء والمجتهدين ؛ ويهم أهل الطب المعلومات عن المناخ والظروف الطبيعية كما يهم المنجمين مطالع النجوم ليحكموا على طوالع البلاد. ويلزم الشعراء وعلماء اللغة معرفة دقيقة بنطق أسماء الأماكن والأنهار والجبال والآبار كى لا يخطئوا فيصبحوا هدفا لسخرية المثقفين من الناس. ويسوق ياقوت مثالا لهذا شرحا «لمقامات الحريرى» لعالم جليل من معاصريه كشف عن عجزه التام عندما حاول تحديد مواقع بعض المواضع (٣٤). وجميع هذه العلل التى يسوقها ياقوت وجيهة فى حد ذاتها ، وهى تعطى مرة أخرى فكرة عن تلك الاعتبارات العملية المعروفة لنا من قبل والتى عاونت على ظهور الأدب الجغرافى وتطوره عند العرب ، هذا بالرغم من أن ياقوت لا يوردها بأجمعها.
وفى آخر مقدمة المعجم يورد ياقوت فى الكثير من التفصيل أسماء السابقين له فى مضمار الجغرافيا ،