أما القسم التاريخى الذى يعقب هذا مباشرة فيبحث فى أصل الموضع الجغرافى المذكور ونشأته والظروف التى أحاطت بذلك ، ومن سكنه والدور التاريخى الذى لعبه ؛ وكثيرا ما يصحب هذا الأخبار والأساطير المتعلقة به. وإذا جاء ذكر الموضع فى القرآن أو الحديث سيقت فى ذلك الشواهد ، وإذا كان قد فتحه المسلمون فيعرض لتاريخ هذا الفتح ؛ كما يورد على الدوام تقريبا أسماء كبار علمائه خاصة الفقهاء وأهل الحديث وأسماء أساتذتهم وتلامذتهم. وبخلاف هذا فليس من النادر أن يعطى ياقوت وصفا دقيقا للأمكنة والمدن التى زارها ويورد تفاصيل دقيقة عن الأبنية المختلفة والقلاع والمرافئ ، وهو كثيرا ما يقف أيضا ليصف عادات وأخلاق القبائل والشعوب كما لا يهمل الكلام عن صنوف العجائب فى البلاد النائية. ويتخلل العرض أثناء ذلك ضروب من الحكايات الطريفة والنكات والقصص مع مختارات واسعة من الشعر ، وقد يضمنه قطعا ورسائل بأجمعها من المؤلفين السابقين. ونتيجة لهذا فقد تنشأ لديه أحيانا مقالة قائمة بذاتها تمتد أحيانا إلى عشر أو خمس عشرة صفحة.
ومن الطبيعى ألا تظفر جميع مواد المعجم بمثل هذه الصورة الحافلة ؛ وإذا كان القسم اللغوى موجودا على الدوام فإن التاريخى قد يختفى بالطبع عند الكلام على محلة مغمورة أو غير معروفة جيدا ، وفى هذه الحالة يختفى أيضا القسم الفلكى ويرد تحديد موقع المكان بصورة تقريبية ؛ وأحيانا قد تقتصر المادة على سطر واحد فقط مع التعريف بالاسم بشكل عام.
وليست بنا حاجة الآن إلى التحدث بشكل خاص عن مصادر المعجم الجغرافى لياقوت فقد رجعنا إليه أكثر من مرة فى الفصول السابقة من كتابنا هذا واقتنعنا بأنه يجمع شتات المادة الجغرافية الضخمة التى تراكمت على ممر ستة قرون. ورغما عن الميل اللغوى الملحوظ عند المؤلف فإن هذا المصنف الجامع ، كما تبين لنا أكثر من مرة ، لم يقتصر على الجغرافيا اللغوية أو الوصفية بل شمل أيضا الرياضية وحفظ لنا فى هذا المجال معطيات من مصادر أخرى ليست معروفة دائما ، الأمر الذى وضحه بالكثير من الدقة هو نغمان فى كتابه عن الأقاليم السبعة. كما يتوكد هذا فى مواضع أخرى من المعجم ؛ فمن بين جميع الزيجات (أى الجداول الفلكية) أولى ياقوت اهتماما خاصا لزيج أبى عون إسحاق بن على (٣٨). وهو لم يكن معروفا لخبير كبير فى الموضوع مثل نالينوNallino الذى استطاع أن يثبت شبه هذا الزيج «بصورة الأرض» للخوارزمى (٣٩) وذلك اعتمادا على الشذور التى حفظها لنا منه ياقوت. من هذا يتضح لنا أنه حتى فى هذا المجال الذى لم يهتم له كثيرا فإن ياقوت وجد تحت تصرفه مصادر لم تصل إلى أيدينا.
ومادة ياقوت متنوعة للغاية ؛ وهو لم يقصر نفسه على العالم الإسلامى وحده كما فعل ممثلو المدرسة الكلاسيكية ، كما وأنه لم يفرد أهمية استثنائية لمواضع جزيرة العرب دون غيرها كما فعل ممثلو المدرسة اللغوية.
وقد رأينا كيف وزع اهتمامه بالسوية على العالم الإسلامى والشرق الأقصى وأن هذا الحكم ينطبق أيضا على معالجته لأوروبا الشرقية والشمالية. ومن الطبيعى أن معرفته بالمشرق أفضل بكثير من معرفته بالمغرب ،