الثانى عشر ، وهم لم يقفوا عند حد عرض القوانين التى تتحكم فى نظامنا الشمسى فحسب بل اهتموا على السواء بجميع الظواهر التى تحدث على الكرة الأرضية فلعبوا فى وقت واحد دور الفلكيين والجغرافيين والجيولوجيين وعلماء المعادن والنبات والحيوان والاثنوغرافيا وبهذا يعتبرون إلى حد ما مكملين للحاحظ والمسعودى والبيرونى ولكن مع الافتقار إلى الأصالة فى البحث وعمق التحليل. وهم فى كثير من الأحيان قوم متصوفون ولكن بطريقة بدائية ، يرون فى كل شىء «معجزات الخالق» وكثيرا ما اتخذت رسائلهم طابع الموعظة والتهذيب. وهم على عكس أولئك لم يهدفوا الإبداع والأصالة بل اكتفوا بالنقل والجمع ولكنهم كانوا فى العادة أمناء فى نقلهم وبلغوا درجة رفيعة فى التصنيف التركييى ؛ ومؤلفاتهم وإن افتقرت إلى عنصر الذاتية إلا أنها كانت تتطلع فى معظم الأحايين إلى الوضوح فى الأسلوب والتزام منطق فى العرض له سمانه المميزة. والميزة الكبرى للقزوينى هى فى بلوغه بهذا النمط أقصى درجة من الإبداع الفنى ؛ وسينضم إلى هذا الاتجاه فى العصور التالية الدمشقى وابن الوردى (٣٥).
والقزوينى بالطبع ناقل مثالى ويقدم لنا نموذجا حيا لأدب عصر التدهور ؛ وهو بالرغم من اطلاعه الواسع ومعلوماته الغزيرة إلا أنه لا يأتى بجديد أو يصوغ نظرية أصيلة. وقد عاونته ثقافته على أن يفقه كل شىء وفقا لطريقته الخاصة مما أدى به فى آخر الأمر إلى وضع مصنف تركيبى يجمع كل معارف عصره. والقزوينى ككاتب يتميز بالوضوح فى الأسلوب الذى يبلغ به فى واقع الأمر درجة رفيعة ، وهو بلا ريب نابغة كمبسط للمعارف يعرض مادته العلمية فى كثير من المهارة بحيث لا تنفر القارئ العام. ولديه مقدرة فائقة فى تبسيط أكثر الظواهر تعقيدا وذلك بطريقة جذابة واضحة كما وأن أسلوبه يجمع بوجه عام بين البساطة والتنوع ولو أنه يقدم فى كثير من الأحايين صورة متداخلة الألوان (mosaic) من روايات المؤلفين السابقين عليه (٣٦). ويرى أحد العلماء المعاصرين أن كوزموغرافيا القزوينى هى أهم أثر أنتجه كاتب عربى فى العصور الوسطى ؛ وكثيرا ما قارنه العلماء يهيرودوت Herodotus وبلينى Plinius ولعل هذه المقارنة لا تخلو من بعض الوجاهة على الرغم من أنه يجب الاعتراف بأن القزوينى لا يفضل هذين المؤلفين الكلاسيكيين سواء من ناحية الروح النقدية أو المنهج (٣٧).
والقزوينى هو زكريا بن محمد ، ويجب عدم الخلط بينه وبين سميه حمد الله قزوينى المؤرخ والجغرافى الفارسى الشهير الذى سيرد الكلام عنه فى حينه. وقد ولد القزوينى فى عام ٦٠٠ ه ـ ١٢٠٣ ، ورغما من النسبة التى يحملها فهو ينحدر من أسرة عربية أصيلة استقر بها المطاف فى العراق العجمى منذ عهد طويل. ومن الملاحظ أن لغته العربية يكثر بها الغريب ولا ترتفع إلى مصاف اللغة الكلاسيكية مما يمكن أن يستدل منه على أنها لم تكن لغة طفولته (٣٨). أما عن حياته وأساتذته فلا نعرف سوى النزر اليسير ، من ذلك أنه كان بدمشق حوالى عام ٦٣٠ ه ـ ١٢٣٣ وهناك وقع تحت تأثير الصوفى الشهير ابن العربى (توفى عام ٦٣٨ ه ـ ١٢٤٠) (٣٩) كما ربطته علاقة بالكاتب والأديب الكبير ضياء الدين بن الأثير