عن هذا عادة بمقارنات حسية مباشرة ، فالأرض تشبه «الفراش» (٢ ٣٠ ، ٥١ ٤٨) ، و «البساط» (٧١ ١٨) و «المهاد» (٧٨ ٦) ، و «المهد» (٤٣ ٩). ومهما بدا الأمر غريبا فإن الحقيقة الواقعة هو أن هذه النظرية المنصوص عليها بصراحة فى القرآن لم تتحول إلى مذهب علمى فى الجغرافيا العربية. وإذا حدث وأن أشار إليها بعض المؤلفين فى افتتاحيات كتبهم التى يبدؤونها عادة بحمد الله وشكره ، كالإدريسى مثلا (٤٠) ، فواقع الأحوال أن النظرية المضادة وهى نظرية استدارة الأرض أو كرويتها قد ثبتت وعم انتشارها منذ زمن مبكر بل إن فلكيا من الفلكيين الأوائل وهو الفرغانى (٤١) قد ساق بعض البراهين المتداولة فى أيامنا هذه لإثبات كروية الأرض ، كاختلاف مواعيد طلوع نجم معين أو اختلاف الكسوف باختلاف الأماكن الخ. غير أن هذه التصورات لم تتميز بالوضوح التام ، فبعض وجهات النظر تنعكس فيها آراء المسيحيين الأوائل الذين تصوروا الأرض على هيئة نصف كرة أو درع أو قبة أو مربع.
ووفقا لما جاء فى القرآن فإن الجبال تخدم غرضا خاصا هو جعل الأرض تثبت فى حال من التوازن كيلا تميد (١٦ ١٥ ، ٢١ ٣٢ ، ٣١ ٩) ؛ وهذه النظرية ترتبط ارتباطا وثيقا بالنظرية القائلة بأن الأرض مسطحة وسابحة فى الفضاء (٤٢). والجبال بوجه عام قد ورد ذكرها فى القرآن فى أكثر من موضع وبينت أهميتها بالنسبة للأرض (١٣ ٣ ، ١٥ ١٩ ، ٢٧ ٦٢ ، ٤١ ٩ ، ٥٠ ٧ ، ٧٧ ٢) ؛ لهذا فحين ظهرت لدى العرب ، خاصة فى أدب الأساطير والعجائب ، الفكرة التى يغلب على الظن أنها مأخوذة من التصورات الإيرانية ، وهى فكرة وجود سلسلة جبلية هى سلسلة جبال قاف المحيطة بالأرض ، وجدت محاولات لتفسيرها بواسطة الآيات القرآنية عن الجبال ؛ ولعله أيضا تحت تأثير هذا برزت فكرة وجود سلسلة جبلية تخترق الأرض من حدها إلى الحد الآخر وترتبط جذورها بجبل قاف (٤٣). والآية القرآنية الغامضة التى تنص على خلق سبع سموات وسبع أرضين (٦٥ ١٢) قد أدت بدورها إلى ظهور نظرية الأراضى السبع (٤٤) ، التى استندت على التصورات الإيرانية عن السبع كشورات وأيضا على المغزى السحرى للرقم سبعة ، الأمر الذى لم يخل من تأثير على نظرية البحار كما سنرى (٤٥).
ولعل النظرية القائلة بوجود بحرين تكاد تكون أعسر مشكلة فى الأدب الجغرافى على الإطلاق ، وقد وردت الإشارة إليها أكثر من مرة فى القرآن وأن هذين البحرين يفصل بينهما برزخ يمنع تمازجهما (٢٧ ٦٢ ، ٥٥ ١٩ ـ ٢٠). وسرعان ما ظهرت الفكرة القائلة بأن المراد من هذا هو البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندى بخليجه الذى يتمثل فى البحر الأحمر ، وأن البرزخ المقصود هو برزخ السويس. ولعله تحت تأثير الرواية الإيرانية تحولت أيضا هذه الفكرة إلى عقيدة ثابتة فى الجغرافيا والكارتوغرافيا العربية (٤٦) فحاول بعض الجغرافيين مثل المقدسى التدليل على صحتها (٤٧). وقد أهملت فى هذا الصدد ، إن قصدا أم سهوا ، إشارة القرآن إلى أن أحد هذين البحرين «عذب» وأن الآخر «ملح» (٢٥ ٥٥ ، ٣٥ ١٣).