وبارتولد فى تحليله لهذه المسألة يلفت النظر إلى أن اللفظ الذى استعمله القرآن للتعبير عن عذب فى كلا الآيتين هو «فرات» ، وأن لفظ «بحر» كان يقصد به العرب دائما الأنهار الكبرى ، ثم يخرج من هذا بفرض مؤداه أن المراد بذلك نهر الفرات والخليج الفارسى وليس البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر ، خاصة وأن تلك معروفة للعرب معرفة مباشرة ؛ أما البرزخ فيجب اعتباره فى هذه الحالة تلك المواضع الضحلة التى تعترض مجرى الفرات قبل أن يصب فى الخليج الفارسى (٤٨). وهذا الفرض واه بالطبع ، لأن القرآن ينص صراحة على أن البرزخ يمنع البحرين من الامتزاج ، الأمر الذى لم يحدث مطلقا بين الفرات والخليج الفارسى ؛ وفضلا عن ذلك فإن مثل هذا التفسير يفترض فى محمد معرفة كافية بجنوب العراق وهو فرض لا يتفق مع الرواية التاريخية. وثمة تفسير جديد للمستشرق فنسنك Wensinck ، فهو يلاحظ أن الآيات المتعلقة بهذين البحرين تفترض وجود محيط سماوى (٤٩) ، وهى فكرة متداولة بين الساميين الغربيين Western Semites وعرفها محمد ولو بصورة مبهمة. بيد أن قنسنك لم يفصّل فى توضيح فرضه هذا حتى قيض له فى الآونة الأخيرة عالم من كبار المتخصصين فى تاريخ الجغرافيا عامة والجغرافيا عند العرب خاصة وهو مجيك Mzik (٥٠) فدلل على صحته بما فيه الكفاية. وقد بنى مجيك تفسيره على آية فى القرآن لم تكن قد اجتذبت حتى تلك اللحظة أنظار الباحثين فى نظرية البحرين. ففى هذه الآية (١٨ ٥٩) يدور الكلام على «مجمع البحرين» حيث ذهب موسى باحثا عن «الماء الحى». ولقد وضح منذ عهد طويل أن القصة المرتبطة باسم موسى إنما مأخوذة من أسطورة الإسكندر ذى القرنين وأنها نسبت خطأ إلى موسى على ما يظهر. وقد اكتنفت محاولات تحديد هذا الموضع آراء بلغت حد العجب ، فالمقدسى مثلا يحدده بالمكان الذى بدأ منه الإسكندر تجواله وذلك عند منبع نهر دجلة (٥١). وكما أثبت مجيك فإن هذا الموضع من القرآن من المواضع القليلة فيه التى انعكست فيها الجغرافيا الأسطورية (٥٢). ووفقا لما جاء فيه فإن المحيط الأرضى يبدو مالحا أما المحيط السماوى المرتبط بالعالم الآخر والذى يرسل الغيث إلى الأرض فهو عذب (٥٣) ، وفى هذا ينعكس صدى قول سفر التكوين (الإصحاح الأول ، الفقرة السادسة) فى وجود فاصل بين الماء السمائى والماء الأرضى (٥٤). وهكذا فإن التصورات عن موقع «مجمع البحرين» بل وعن البحرين نفسيهما اللذين ورد ذكرهما فى الآيات المشار إليها ، ترتبط ببعضها البعض ارتباطا وثيقا ومن العبث البحث عن تفسير لها فى واقع الأحوال بالأرض (٥٥). ومما زاد فى اللبس أكثر أن هذه المسألة لم تكن واضحة لمحمد نفسه وأن ألفاظه فى عدد من المواضع تحمل طابع الغموض.
وفى موضع آخر من القرآن غلب فيه الجانب البلاغى دفع هذا إلى ظهور نظرية عن البحار السبعة لم تلبث ان انعكست فى الأدب الجغرافى. ففى هذا الموضع (٣١ ٢٦) ، وهو الذى يلى الكلام على قدرة الله ، جاء ما نصه : «... ولو أنما فى الأرض من شجرة أقلم والبحر يمده من بعده سبعة أبحر