لجميع النقاط الهامة من جديد. أما فيما يتعلق بخط نصف النهار الابتدائى فإن الآراء كما أسلفنا لم تتفق على نقطة واحدة ، فالفلكيون العرب بدأوا حسابهم إما على نمط اليونان ابتداء من أقصى الغرب متجهين صوب الشرق إلى درجة ١٨٠ من «المعمورة» ، أو قاسوا ٩٠ درجة إلى الشرق وإلى الغرب من خط منتصف النهار المركزى الذى يخترق «قبة الأرين» فى مركز الأرض على خط الاستواء (١٤٢). بيد أن هذا لم يمنعهم من بلوغ درجة عالية من الدقة فى حسابهم مما يمكن استنباطه من بعض الأمثلة. فالفلكيون أبناء موسى بن شاكر قد قاسوا عرض محلة باب الطاق ببغداد بثلاث وثلاثين درجة وعشرين دقيقة شمالا ، وهو ما ينطبق تماما على واقع الحال. كما ضبط الماهانى (توفى حوالى ٢٦٠ ه ـ ٨٧٤ ـ ٢٧٠ ه ـ ٨٨٤) عرض مدينة سامرا بأربع وثلاثين درجة واثنى عشر دقيقة شمالا ، بينما يشير التحديد المعاصر لأوبنهيم Oppenheim إلى ٣٤ درجة و ١١ دقيقة و ٥٠ ثانية شمالا (١٤٣). أما البيرونى فإنه قاس فرق الطول بين بغداد وغزنة فى ٢٤ درجة و ٢٠ دقيقة وذلك بطريقة تنم عن ذكاء وافر توصل إليها بنفسه ، هذا بينما أثبتت الملاحظة المعاصرة أن الفرق يبلغ ٢٣ درجة و ٥٠ دقيقة (١٤٤). ومما يقدم مثالا طريفا للتصحيحات التى أجراها العرب فى قياسات الأطوال التى أخذت قبلهم هو اختزالهم التدريجى لطول البحر الأبيض المتوسط ، فاليونان وفقا لبطلميوس قدروا طوله باثنين وستين درجة ، اختزلها محمد الخوارزمى إلى ٥٢ درجة وتلاه الزرقالى فى «جداول طليطلة» (١٤٥) فاختزلها إلى ٤٢ درجة أى ما يعادل طوله الحقيقى بالتقريب (١٤٦). وقد استمر هذا التراث فى حفظ الحساب الدقيق إلى نهاية عصر الابتداع العلمى «العربى» فى الشرق ، فالوغ بيك يحدد عرض مرصده بسمرقند فى ٣٩ درجة و ٣٧ دقيقة شمالا ، صححها الفلكى الروسى استروفه Struve إلى ٣٩ درجة ، و ٢٨ دقيقة و ٥٠ ثانية أى بفرق يقل عن دقيقتين (١٤٧).
وتقرير فلكيى عصر المأمون فى تحديد المواقع الجغرافية يرجع أساسا إلى الأرصاد التى أجريت ببغداد عام ٢١٤ ه ـ ٨٢٩ وبدمشق عام ٢١٧ ه ـ ٨٣٢ (١٤٨) ، ويعرف هذا التقرير باسم «الزيج المأمونى الممتحن» وهو وإن لم يصلنا فى صورته الأصلية إلا أن أثره كان بليغا كما يتضح من المصنفات المماثلة لمعاصريه الخوارزمى والفرغانى. ومن الطريف ملاحظة أنه لا يخلو من رد فعل معين ضد التأثير المطلق للعلم اليونانى ، فهو خلو تماما من أية أسماء من أسماء العالم الكلاسيكى كما وأن القليل من الأسماء الأعجمية الواردة فيه إنما يرتفع إلى مصدر سريانى (١٤٩). والمادة الرئيسية للحكم على «الزيج المأمونى» تستقى أساسا من الرسالة الشهيرة لأحمد بن محمد بن كثير الفرغانى «كتاب الحركات السماوية وجوامع علم النجوم» ـ وهى واحدة من أولى المصنفات العربية فى الفلك وتكاد تكون أكثرها شهرة فى أوروبا الوسيطة. ورغما عن هذا فإن اضطرابا بالغا يسود المعلومات عن المؤلف ، ولم يقتصر هذا على الجهل بتاريخ وفاته بل تعداه إلى أنه لم يتضح حتى الآن هل يقصد بهذا الاسم شخص واحد أم شخصان مختلفان ، وأيهما