وأما «أبو البركات البغدادى» ـ وهو من أكابر الفلاسفة المتأخرين ـ فانه صرح فى كتابه «المعتبر» باثبات ارادات محدثة ، وعلوم محدثة فى ذات الله تعالى. وزعم : أنه لا يتصور الاعتراف بكونه تعالى إلها لهذا العالم ، الا مع هذا المذهب. ثم قال : «الاجلال من هذا الجلال واجب ، والتنزيه من هذا لتنزيه لازم» فاذا حصل الوقوف على هذا التفصيل ، ظهر أن هذا المذهب قال به أكثر فرق العقلاء ، وان كانوا ينكرونه باللسان.
واعلم : أن الصفات على ثلاثة أقسام : أحدها : صفات حقيقية عارية عن الاضافات. كالسواد والبياض. وثانيها : الصفات الحقيقية التى تلزمها الاضافات. كالعلم والقدرة. وذلك لأن العلم صفة حقيقية تلزمها اضافة مخصوصة الى المعلوم ، وكذا القدرة صفة حقيقية ، ولها تعلق بالمقدور. وذلك التعلق اضافة مخصوصة بين القدرة وبين المقدور. وثالثها : الاضافات المحضة والنسب المحضة. مثل كون الشيء قبل غيره وبعد غيره. ومثل كون الشيء يمينا لغيره أو يسارا له. فانك اذا جلست على يمين انسان ثم قام ذلك الانسان وجلس فى الجانب الآخر منك ، فقد كنت يمينا له ثم صرت الآن يسارا له. فههنا لم يقع التغير فى ذاتك ، ولا فى وصفة حقيقية من صفاتك ، بل فى محض الاضافات.
اذا عرفت هذا ، فنقول : أما وقوع التغير فى الاضافات ، فلا خلاص عنه. وأما وقوع التغير فى الصفات الحقيقية ، فالكرامية يثبتونه ، وسائر الطوائف ينكرونه. فظهر الفرق فى هذا الباب بين مذهب «الكرامية» ومذهب غيرهم.
والّذي يدل على فساد قول «الكرامية» وجوه :