تخويف لأهل مكّة. ثم ذكر منّته عليهم بالقرآن فقال : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) ، وفي ثلاثة أقوال (١) : أحدها : فيه شرفكم ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني : فيه دينكم ، قاله الحسن ، يعني : فيه ما تحتاجون إليه من أمر دينكم. والثالث : فيه تذكرة لكم لما تلقونه من رجعة أو عذاب ، قاله الزّجّاج. قوله تعالى : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ما فضّلتكم به على غيركم.
(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))
ثم خوّفهم فقال : (وَكَمْ قَصَمْنا) قال المفسّرون واللغويون : معناه : وكم أهلكنا ، وأصل القصم : الكسر. قوله تعالى : (كانَتْ ظالِمَةً) ؛ أي : كافرة ، والمراد : أهلها. (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي : رأوا عذابنا بحاسّة البصر (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي : يعدون ، وأصل الرّكض : تحريك الرّجلين ، يقال : ركضت الفرس : إذا أعديته بتحريك رجليك فعدا.
قوله تعالى : (لا تَرْكُضُوا) قال المفسّرون : هذا قول الملائكة لهم : (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) ، أي : إلى نعمكم التي أترفتكم ، وهذا توبيخ لهم. وفي قوله : (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) قولان : أحدهما : تسألون من دنياكم شيئا ، استهزاء بهم ، قاله قتادة. والثاني : تسألون عن قتل نبيّكم ، قاله ابن السّائب. فلمّا أيقنوا بالعذاب (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) بكفرنا ، (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) أي : ما زالت تلك الكلمة التي هي «يا ويلنا إنّا كنّا ظالمين» قولهم يردّدونها. (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) بالعذاب ، وقيل : بالسيوف (خامِدِينَ) ، أي : ميّتين كخمود النار إذا طفئت.
(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ َيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤))
قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي : لم نخلق ذلك عبثا ، إنما خلقناهما دلالة على قدرتنا ووحدانيّتنا ليعتبر الناس بخلقه ، فيعلموا أنّ العبادة لا تصلح إلّا لخالقه ، لنجازي أولياءنا ، ونعذّب أعداءنا.
قوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) في سبب نزولها قولان : أحدهما : أنّ المشركين لمّا قالوا :
__________________
(١) قال الطبري ٩ / ٨ : عنى بالذكر في هذا الموضع الشرف ، وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه.