وإنما كنّى عنها ، لأنه قد سبق ما يدلّ عليها من ذكر الحكم ، (وَكُلًّا) منهما (آتَيْنا حُكْماً) وقد سبق بيانه. قال الحسن : لو لا هذه الآية لرأيت أنّ القضاة قد هلكوا ، ولكنه أثنى على سليمان لصوابه ، وعذر داود باجتهاده.
فصل : قال أبو سليمان الدّمشقي : كان قضاء داود وسليمان جميعا من طريق الاجتهاد ، ولم يكن نصّا ، إذ لو كان نصّا ما اختلفا. قال القاضي أبو يعلى : وقد اختلف الناس في الغنم إذا نفشت ليلا في زرع رجل فأفسدته ، فمذهب أصحابنا أنّ عليه الضمان (١) ، وهو قول الشّافعيّ ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا ضمان عليه ليلا ونهارا ، إلّا أن يكون صاحبها هو الذي أرسلها ، فظاهر الآية يدلّ على قول أصحابنا ، لأنّ داود حكم بالضّمان ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه. فإن قيل : فقد ثبت نسخ هذا الحكم ، لأنّ داود حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها ، ولا خلاف أنه لا يجب على من نفشت غنمه في حرث رجل شيء من ذلك ؛ قيل : الآية تضمّنت أحكاما ، منها وجوب الضّمان وكيفيّته ، فالنّسخ حصل على كيفيّته ، ولم يحصل على أصله ، فوجب التّعلّق به.
(٩٩٢) وقد روى حرام بن محيّصة عن أبيه : أنّ ناقة للبراء دخلت حائط رجل فأفسدت ، فقضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
____________________________________
(٩٩٢) صحيح. أخرجه أحمد ٥ / ٤٣٦ وابن أبي شيبة ٩ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦ وابن الجارود ٧٩٦ والبيهقي ٨ / ٣٤٢ من طريق ابن عيينة عن الزهري عن ابن المسيب وحرام بن محيصة به. وأخرجه مالك ٢ / ٧٤٧ والشافعي ٢ / ١٠٧ والطحاوي ٣ / ٢٠٣ والدار قطني ٣ / ١٥٦ وابن ماجة ٢٣٣٢ كلهم عن الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة به. وهو مرسل صحيح. وأخرجه الشافعي ٢ / ١٠٧ وأحمد ٤ / ٢٩٥ وأبو داود ٣٥٧٠ والطحاوي ٣ / ٢٠٣ والحاكم ٢ / ٤٧ والدار قطني ٣ / ١٥٥ والبيهقي ٨ / ٣٤١ من طرق عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء ، وفيه إرسال لكن يشهد لمرسل ابن المسيب المتقدم ، ويرقى به إلى درجة الحسن. وورد موصولا ، أخرجه عبد الرزاق ١٨٤٣٧ وأحمد ٥ / ٤٣٦ وأبو داود ٣٥٦٩ والدار قطني ٣ / ١٥٤ والبيهقي ٨ / ٣٤٢ كلهم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه به. ورجاله ثقات ، لكن أعله ابن عبد البر كما نقل ابن التركماني في «الجوهر النقي» ٨ / ٣٤٢ بأنه أنكر على عبد الرزاق ذكره ـ عن أبيه ـ ونقل ابن عبد البر عن أبي داود قوله : لم يتابع عبد الرزاق على قوله : عن أبيه. والصحيح أنه توبع ، فقد أخرجه الدار قطني ٣ / ١٥٥ من طريق الشافعي عن أيوب بن سويد عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام عن أبيه.
الخلاصة : ورد موصولا ومرسلا ، ومرسل ابن المسيب وحده يحتج به الأئمة الأربعة. كيف وقد توبع ، تابعه حرام بن محيصة ، وورد أيضا موصولا ، فهو صحيح إن شاء الله تعالى ، وقد صححه ابن العربي.
ـ وانظر ما ذكره الشيخ شعيب في «الإحسان» ١٣ / ٣٥٤ ـ ٣٥٧. وانظر «أحكام القرآن» ١٤٩٧ بتخريجنا.
__________________
(١) جاء في «المغني» مسألة : «وما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها ، وما أفسدت من ذلك نهارا ، لم يضمنوه». قال العلامة الموفق في شرحه : يعني إذا لم تكن يد أحد عليها ، فإن كان صاحبها معها أو غيره فعليه ضمان ما أتلفته من نفس أو مال ، وإن لم تكن يد أحد عليها ، فعلى مالكها ضمان ما أفسدته من الزرع ليلا دون النهار. وهذا قول مالك والشافعي وأكثر فقهاء الحجاز ، وقال الليث يضمن مالكها ما أفسدته ليلا أو نهارا بأقل الأمرين من قيمتها أو قدر ما أتلفته. وقال أبو حنيفة لا ضمان عليه بحال اه ملخصا.