بأقوى الأسباب. والثالث : كنتم توثّقون ما كنتم تقولون بأيمانكم ، فتأتوننا من قبل الأيمان التي تحلفونها ، حكاه عليّ بن أحمد النّيسابوريّ. فيقول المتبوعون لهم : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : لم تكونوا على حقّ فنضلّكم عنه ، إنما الكفر من قبلكم. (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) فيه قولان : أحدهما : أنه القهر. والثاني : الحجّة. فيكون المعنى على الأول : وما كان لنا عليكم من قوّة نقهركم بها ونكرهكم على متابعتنا ، وعلى الثاني : لم نأتكم بحجّة على ما دعوناكم إليه كما أتت الرّسل.
قوله تعالى : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) أي : فوجبت علينا كلمة العذاب ، وهي قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (١) ؛ (إِنَّا لَذائِقُونَ) العذاب جميعا نحن وأنتم ، (فَأَغْوَيْناكُمْ) أي : أضللناكم عن الهدى بدعائكم إلى ما نحن عليه ، وهو قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ).
ثم أخبر عن الأتباع والمتبوعين بقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) ، والمجرمون ها هنا : المشركون ، (إِنَّهُمْ كانُوا) في الدّنيا (إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي : قولوا هذه الكلمة (يَسْتَكْبِرُونَ) أي : يتعظّمون عن قولها ، (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا) المعنى : أنترك عبادة آلهتنا (لِشاعِرٍ) أي : لاتباع شاعر؟! يعنون رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فردّ الله تعالى عليهم فقال : (بَلْ) أي : ليس الأمر على ما قالوا ، بل (جاءَ بِالْحَقِ) وهو التوحيد والقرآن ، (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) الذين كانوا قبله ؛ والمعنى أنه أتى بما أتوا به. ثم خاطب المشركين بما بعد هذا إلى قوله تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) يعني الموحّدين. قال أبو عبيدة : والعرب تقول : إنّكم لذاهبون إلّا زيدا. وفي ما استثناهم منه قولان : أحدهما : من الجزاء على الأعمال ، فالمعنى : إنّا لا نؤاخذهم بسوء أعمالهم ، بل نغفر لهم ، قاله ابن زيد. والثاني : من دون العذاب ، فالمعنى : فإنهم لا يذوقون العذاب ، قاله مقاتل.
قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) فيه قولان : أحدهما : أنه الجنّة ، قاله قتادة. والثاني : أنه الرّزق في الجنّة ، قاله السّدّيّ ، فعلى هذا ، في معنى «معلوم» قولان : أحدهما : أنه بمقدار الغداة والعشيّ ، قاله ابن السّائب. والثاني : أنهم حين يشتهونه يؤتون به ، قاله مقاتل.
ثم بيّن الرّزق فقال : (فَواكِهُ) وهي جمع فاكهة وهي الثّمار كلّها ، رطبها ويابسها (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) بما أعطاهم الله. وما بعد هذا قد تقدّم تفسيره (٢) إلى قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) قال الضّحّاك : كلّ كأس ذكرت في القرآن ، فإنما عني بها الخمر ، قال أبو عبيدة : الكأس : الإناء بما فيه ؛ والمعين : الماء الطاهر الجاري. قال الزّجّاج : الكأس : الإناء الذي فيه الخمر ، وتقع الكأس على كلّ إناء مع شرابه ، فإن كان فارغا فليس بكأس. والمعين : الخمر يجري كما يجري الماء على وجه الأرض من العيون.
قوله تعالى : (بَيْضاءَ) قال الحسن : خمر الجنّة أشدّ بياضا من اللّبن ، قال أبو سليمان الدّمشقي : ويدلّ على أنه أراد بالكأس الخمر ، أنه قال : «بيضاء» فأنّث ولو أراد الإناء على انفراده ، أو الإناء والخمر ، لقال : أبيض. وقال ابن جرير : إنما أراد بقوله : «بيضاء» الكأس ، ولتأنيث الكأس أنثت البيضاء. قوله تعالى : (لَذَّةٍ) قال ابن قتيبة : أي : لذيذة ، يقال : شراب لذاذ : إذا كان طيّبا. وقال
__________________
(١) الأعراف : ١٨.
(٢) الحجر : ٤٧.