قطع النظر عن مخوفات ومرغبات ، دينية وأخروية ، وسنن يتبعونها ، وآثار يقتدون بها ، وذلك كله إنما يتم ببيان ، ومشرع يخاطبهم ويفهمهم من نوعهم ؛ وفاء بموجب عناية المبدأ الأول بهم.
ثم يجب أن يكون البيان مؤيدا من عند الله تعالى بالمعجزات والأفعال الخارقة للعادات ، التي تتقاصر عنها قوى غيره من نوعه ، بحيث يكون ذلك موجبا لقبول قوله ، والانقياد له فيما يسنه ويشرعه ، ويدعو به إلى الله تعالى وإلى عبادته والانقياد لطاعته ، وما الله عليه من وجوب الوجود له ، وما يليق به وما لا يليق به ، وأحكام المعاد ، وأحكام المعاش ؛ ليتم لهم النظام ، ويتكامل لهم اللطف والإنعام ، وذلك كله فالعقل يوجبه لكونه حسنا ، ويحرم انتفاءه لكونه قبيحا.
واعلم أن مبنى هذا الكلام إنما هو على فاسد أصول الخصوم ، في الحسن والقبح ، ورعاية الصلاح والأصلح ووجوبه ، وقد سبق إبطاله بما فيه مقنع وكفاية ، وأما الغلاة من النفاة الجاحدين لوجوب الوجود فإنهم قالوا : النبوة ليست من صفة راجعة إلى نفس النبي ، بل لا معنى لها إلا التنزيل من عند رب العالمين ، وعند ذلك فالرسول لا بدّ له أن يعلم أنه من عند الله تعالى ، وذلك لا يكون إلا بكلام ينزل عليه أو بكتاب يلقى إليه ؛ إذ المرسل ليس بمحسوس ولا ملموس ، وما الذي يؤمنه من أن يكون المخاطب له ملكا أو جنيا؟ وما ألقى إليه ليس هو من عند الله تعالى؟ ومع هذه الاحتمالات فقد وقع شكه في رسالته وامتنع القول الجزم بنبوته ، ثم إن ما يكلمه وينزل عليه إما أن يكون جرمانيا أو روحانيا : فإن كان جرمانيا وجب أن يكون مشاهدا مرئيا ، وإن كان روحانيا فذلك منه مستحيل ، كيف وأن ما جاء به لم يخل إما أن يكون مدركا بالعقول أو غير مدرك بها ، فإن كان الأول فلا حاجة إلى الرسول ، بل البعثة تكون عبثا وسفها ، وهو قبيح في الشرع وإن كان الثاني فما يأتي لا يكون مقبولا ؛ لكونه غير معقول ، فالبعثة على كل حال لا تفيد ، وأيضا فإن