القاعدة الثالثة
في حدوث المخلوقات وقطع تسلسل الكائنات (١)
وقد اضطربت فيه الآراء ، واختلف فيه الأهواء
فذهبت طوائف من الإلهيين كالرواقيين والمشائيين ، ومن تابعهم من فلاسفة الإسلاميين إلى القول بوجوب ما وجب عن الواجب بذاته مع وجوده. وإن قيل له «حادث» فليس إلا بمعنى أن وجوب وجوده لغيره ، وأن له مبدأ يستند إليه ، ويتقدم عليه تقدما بالذات ، على نحو تقدم العلل والمعلولات ، لا بمعنى أن حدوثه من عدم بل هو أزلي أبدي لم يزل ولا يزال. وكذلك حكم ما وجب عما وجب وجوده بالواجب بذاته ، وهلم جرا ، على ما ذكرناه من تفصيل مذاهبهم وإيضاح قواعدهم فيما لا يقبل الفساد ، كالأجرام الفلكية ونفوسها والعقول التي هي مبادئ لها ، فهي قديمة أزلية لم تزل ولا تزال.
وما هو قابل للاستحالة كالحركات والامتزاجات أو الفساد كالصور الجوهرية للعناصر والمركبات ، فهي وان كان كل واحد منها حادثا ، لكنه لا أول لها ينتهي إليه ، بل هي لا تتناهى مدة ولا عدة ، وما من كائن فاسد إلا وقبله كائن آخر ، إلى ما لا يتناهى. ولم يوجبوا التناهي ، على أصلهم ، إلا فما له ترتيب وضعي ، كالامتدادات أو ترتيب طبيعي وآحاده موجودة معا كالعلل والمعلولات ، وأما ما سواه فالحكم بأن لا نهاية له غير مستحيل كالحركات الدورية ، والنفوس الإنسانية بعد المفارقة للأجرام البدنية ، كما سلف.
__________________
(١) انظر : موافقة صحيح المنقول لشيخ الإسلام ابن تيمية (٢ / ٨٨ ، ٩٠) ، والمحصل للرازي (ص ٧٨) ، وشرح الأصول الخمسة لعبد الجبار (ص ٩٢ ، ٥٠٥ ، ٥١٤) ، ومناهج الأدلة لابن رشد (١٢ / ١٥ ، ١٣٨ ، ١٤٤) ، والنجاة لابن سينا (ص ١٠٢ ، ١٠٤) ، الإشارات الإلهية له (٢ / ١٢٧ ، ١٤٥) ، الشفاء له الفن الثاني من الطبيعيات (ص ٧٠ ، ٧١).