الطرف الخامس
في إثبات الإدراكات (١)
__________________
(١) والإدراك وإن أطلق بمعنى العلم بالشيء ؛ فإنه يصح أن يقال : أدرك فلان الشيء إذا علمه ، وبمعنى اللحوق ؛ إذ يقال : أدرك فلان العصر الفلاني ، إذا لحقه ، وبمعنى البلوغ لحالة من أحوال الكمال ، ومنه يقال : أدرك الغلام إذا بلغ سن كمال العقل ، وأدركت الثمار ، إذا زهت واستوت ، إلا أن المقصود فيما نحن فيه ؛ إنما هو الإدراك بمعنى السمع والبصر. وقد أجمع العقلاء ، على أن الواحد منا مدرك ، ثم اختلفوا : فمن قال بنفي الأعراض : قال : هو مدرك ، لا بإدراك. ومن أثبت الأعراض : قال هو مدرك ، بإدراك ، وإن الإدراك معنى ، غير الإدراك عرض قائم بجزء من المدرك عند المعتزلة ، وقائم بنفس المدرك عند من لا يرى تعدي حكم الصفة عن محلها. وعند هذا اختلف المتكلمون في الرب تعالى : فذهب أصحابنا : إلى أنه سميع بسمع ، بصير ببصر. وذهب المعتزلة : إلى أنه سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر. وذهب ابن الجبائي : إلى أن معنى كونه سميعا ، بصيرا : أنه حي لا آفة به. وذهب الكعبي : إلى أن معناه : أنه عالم بالمسموعات ، والمبصرات. وقد اعتمد أصحابنا في المسألة على المسلك المشهور ، وهو أنهم قالوا : الباري تعالى حي ، والحي إذا قبل حكما لا يخلو عنه ، أو عن ضده. وهو كونه حيا موجب لقبول السمع ، والبصر ، فلم لم يتصف الباري ـ تعالى ـ بالسمع ، والبصر. لكان متصفا بضدهما وضد البصر ، والسمع ، صفة نقص ؛ فيمتنع اتصاف الباري ـ تعالى ـ به. وبيان أن الموجب لقبوله للسمع ، والبصر كونه حيا : ما نراه في الشاهد ؛ فإن الموجب لقبول الإنسان ، وغيره من الحيوان لذلك : إنما هو كونه حيا ؛ فإنه لو قدر أن الموجب لذلك غير الحياة من الأوصاف ؛ لكان منتفضا. وإذا كان الموجب لقبول ذلك : إنما هو كونه حيا : فالباري ـ تعالى ـ حي كما يأتي ؛ فيجب أن يكون متصفا بهما وإلا كان متصفا بأضدادهما : وهو ممتنع ، واعلم أن هذا المسلك : مما لا يقوى نظرا إلى ما حققناه في مسألة الكلام. والذي نعده هاهنا أن نقول : حاصل طريقة آئل إلى قياس التمثيل ؛ وهو الحكم على الغائب بمثل ما حكم به على الشاهد بجامع الحياة ، وهو إنما يصح أن لو ثبت أن الحكم في الأصل الممثل به لمعنى ، لا أنه ثابت لنفسه ، أو بخلق علم الله ـ تعالى ـ له في ذلك من غير افتقار إلى أمر خارج ، يكون مصححا له ، وموجبا. وإن سلم أنه ثبت لمعنى ؛ لكن لا بدّ من حصر أوصاف المحل ؛ وذلك لا يتم إلا بالبحث ، والسبر ؛ وهو غير مفيد لليقين كما سلف. ثم وإن أفاد علما للباحث ؛ فلا يكون حجة على غيره ؛ فإن بحث زيد