الطرف الثاني
في بيان وقوعها بالفعل وإثبات معرفتها بالنقل
ومن ثبتت نبوته واشتهرت رسالته بالمعجزات والدلالات القطعيات ، أكثر من أن يحصى ، لنقتصر من ذلك على إثبات نبوة سيد الأولين والآخرين ، وخاتم المرسلين ، محمد صلى الله عليه وعلى آله أجمعين ؛ إذ الطوائف على إنكار بعثته متفقون ، وفي مآخذهم مختلفون.
فرب من أنكر رسالته بمجرد القدح في معجزاته ، والطعن في آياته ، كالنصارى وغيرهم من المعترفين بجواز نسخ الشرائع وبعثة الرسل.
ورب من أنكر رسالته ؛ لاعتقاده إحالة نسخ الشرائع وتبدل الذرائع كبعض اليهود لكن منهم من أحال ذلك عقلا كالشمعنية ، ومنهم من أحال سمعا كالعنانية ، ولم يوافق أهل الإسلام على كونه نبيا غير العيسوية ؛ فإنهم معترفون برسالته ، لكن إلى العرب خاصة ، لا إلى الأمم كافة.
والذي يدل على صحة رسالته ، وصدقه في دعوته ، ما ظهر على يده من المعجزات والآيات الباهرات ، فمن جملتها القرآن المجيد ، الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] ، فإن من نظر بعين الاعتبار ، وله قدم راسخ في الاختبار ، علم أن القرآن من أظهر المعجزات ، وأبلغ ما تخرق به العادات ، وأن ذلك مما لا يدخل تحت طوق البشر ، ولا يمكن تحصيله بفكر ولا نظر ؛ لما اشتمل من النظم الغريب ، والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من الأوزان والأساليب ، من الجزالة والبلاغة ، وجمع الكثير من المعاني السديدة في الألفاظ الوجيزة الرشيقة ، وإليه الإشارة بقوله عليهالسلام : «أوتيت جوامع الكلم ، واختصرت لي الحكمة اختصارا» وذلك كما دل على وحدانيته ، وعظم صمديته ، والإرشاد لمن ضل إلى معرفته بقوله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الآية : ٤] ، فإنه بينة على أن ذلك كله ليس إلا بمشيئته وإرادته وأنه مقدور