الطرف الثاني
في إثبات صفة العلم (١)
__________________
(١) مذهب أهل الحق : أن الباري ـ تعالى ـ عالم بعلم واحد قائم بذاته ، قديم أزلي ، متعلق بجميع المتعلقات ، غير متناه بالنظر إلى ذاته ، ولا بالنظر إلى متعلقاته. وأما الفلاسفة فمختلفون : فمنهم من نفى كونه عالما مطلقا ، لا بذاته ، ولا بغيره. ومنهم من أثبت كونه عالما بذات ، دون غيره. ومنهم من أثبت كونه عالما بذاته وبغيره ، إن كان معنى كليا ، ولم يجوّز كونه عالما بالجزئيات : من حيث هي جزئيات ؛ بل على نحو كلي ، وهذا هو الذي ينصره أبو علي بن سينا. وأما المتكلمون : فمنهم من قال : لا يوصف الباري ـ تعالى ـ بما يوصف به خلقه ؛ فلا يوصف بكونه عالما ، ولا حيا ؛ ولكن يوصف بكونه قادرا ، خالقا ؛ لأنه لا يوصف شيء من مخلوقاته بذلك على الحقيقة ، وأثبت لله علوما حادثة لا في محل ؛ وهذا هو مذهب جهم بن صفوان. ومنهم من قالت : هو عالم : بمعنى أنه ليس بجاهل ؛ وهو مذهب ضرار بن عمرو. وذهب الجبائي ، وابنه أبو هاشم : إلى أنه عالم لذاته ؛ لكن اختلفا. فقال الجبائي : هو عالم لذاته : أي لا يقتضي كونه عالما ، صفة زائدة من علم ، أو حال. وقال أبو هاشم : هو عالم لذاته : بمعنى أنه ذو حالة زائدة لا توصف بالوجود ، ولا بالعدم ، ولا بكونها معلومة ، ولا مجهولة. وذهب أبو الهذيل العلاف : إلى أن الباري ـ تعالى ـ عالم بعلم ؛ هو ذاته. وذهب أبو الحسين البصري ، وهشام بن الحكم : إلى أن اتصافه بكون عالما بالجزئيات متجدد ، وبالكليات أزلي. وذهب آخرون : إلى أنه لا يعلم ما لا نهاية له من المعلومات ؛ بل إنما يعلم ما كان متناهيا. ثم إن من اعترف من الفلاسفة ، بكونه عالما بنفسه وبغيره ، انتهج في الاستدلال على ذلك منهجين : المنهج الأول : أنه بين كون الرب ـ تعالى ـ عالما بذاته أولا ، ثم بين استلزامه علمه بذاته ؛ لعلمه بغيره ثانيا. فقال : واجب الوجود يعلم ذاته ، ويلزم من علمه بذاته علمه بغيره. أما أنه يعلم ذاته : فهو أن وجود واجب الوجود مجرد عن المادة ، وعلائقها : أي أنه ليس بجسم ، ولا جسماني ؛ على ما يأتي تحقيقه. وكل ماهية مجردة عن المادة ، وعلائقها ؛ فهي عقل : إذ لا نعني بالعقل إلا هذا. فواجب الوجود بما هو هوية مجردة : عقل. وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة : هو عاقل ذاته ؛ إذ لا معنى لتعقل الشيء لذاته إلا حصول ذاته المجردة لذاته ، وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته : هو معقول. وإذا ثبت أنه عاقل لذاته ، وعالم بها ؛ فيجب أن يكون عاقلا لما وجوده من وجوده ؛ لأنه إذا علم ذاته ، وذاته مبدأ ، لما وجوده