الطرف الأول
في إثبات صفة الإرادة (١)
__________________
(١) مذهب أهل الحق : أن الباري ـ تعالى ـ مريد بإرادة قائمة بذاته ، قديمة ، أزلية ، وجودية ، واحدة ، لا تعدد فيها ، متعلقة بجميع الجائزات ، غير متناهية بالنظر إلى ذاتها ، ولا بالنظر إلى متعلقاتها. وذهب الفلاسفة ، والشيعة ، والمعتزلة : إلى إنكار ذلك. وإذا قيل له مريد : فمعناه عند الفلاسفة : راجع إلى سلب الكراهة عنه. ووافقهم على ذلك النجار من المعتزلة : حيث أنه فسر كونه مريدا ؛ بسلب الكراهة ، والغلبة عنه. وأما النظام ، والكعبي فإنهما قالا : إن وصف بالإرادة شرعا ؛ فليس معناه إن أضيف ذلك إلى أفعاله لا أنه خالقها. وإن أضيف إلى أفعال العبد ؛ فالمراد أنه أمر بها. وزاد الجاحظ على هؤلاء بإنكار الإرادة شاهدا ، وقال : مهما كان الإنسان غير غافل ، ولا ساه عما يفعله ؛ بل إن كان عالما به ؛ فهو معنى كونه مريدا ، وذهب البصريون من المعتزلة : إلى أنه مريد بإرادة قائمة لا في محل ، وذهب الكرامية : إلى أنه مريد بإرادة حادثة في ذاته ، تعالى الله عن قول الزائغين. وقبل الخوض في الحجاج نفيا ، وإثباتا ؛ لا بدّ من تحقيق معنى الإرادة على مذهب أهل الحق من أئمتنا ؛ ليكون التوارد بالنفي ، والإثبات على معنى واحد. وقد اختلفت عباراتهم فيها : فقال بعضهم : هي القصد إلى المراد. وقال بعضهم : هي إيثار المراد. وقال بعضهم : هي اختيار الحادثات. وقال القاضي أبو بكر : هي المشيئة المجردة. وفي هذه العبارات نظر. أما العبارات الأولى والثانية : ففيهما تعريف بالإرادة بالمراد ، والمراد مشتق من الإرادة ؛ فيكون أخفى في المعرفة من معرفة الإرادة ؛ فلا يصلح للأخذ في التعريف. والذي يخص العبارة الأولى : أن الإرادة أعم من القصد ، وتعريف الأعم بما هو أخص منه ممتنع ؛ ولهذا فإن الإرادة على رأي الأصحاب يجوز تعلقها بفعل الغير ، والقصد إلى فعل الغير ؛ ممتنع. وقول القائل في العرف : قصدي لفعلك لأجل مصلحتك ؛ فمن أجل مصلحتك ، فمن باب التجوز ، والتوسع ؛ والكلام إنما هو في الحقيقة. وأما العبارة الثانية : وهي الإيثار ، فقد قيل فيها : الإيثار مشعر بسابقة التردد بين أمرين. أحدهما أثر عن الآخر ، والإرادة أعم من ذلك ؛ فإنها قد تكون حيث لا تردد : كالمكره على فعل شيء ؛ فإنه لا يخطر له غير الفعل الذي به نجاته ؛ وهو مريد له. ويمكن دفعه : بأنه مؤثر لجانب فعله على عدمه ، ولا خلو له عنه. وما مثل هذا التشكيك فوارد على العبارة الثالثة : وهي الاختيار. وبالجملة : فجملة هذه العبارات ؛ وإن سلم تساويها في المعنى عموما ،