الطرف الثالث
في إثبات صفة القدرة (١)
ويجب أن يكون الباري ـ تعالى ـ قادرا بقدرة ، لضرورة ما أسلفناه من البيان ، وأوضحناه من البرهان ، في مسألة العلم والإرادة ، ويجب أن تكون
__________________
(١) عبارة عن صفة وجودية ، من شأنها تأتي الإيجاد ، والإحداث بها على وجود يتصور ممن قامت به الفعل ، بدلا عن الترك ، والترك بدلا عن الفعل. وهي منقسمة : إلى قديم ، وحادث. أما القدرة الحادثة : فسيأتي الكلام فيها وفيما يتعلق بها فيما بعد. وأما القدرة القديمة : فقد احتج الأصحاب على ثبوتها لله ـ تعالى ـ بالنص ، والمعقول. أما النص : فقوله ـ تعالى ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت : ١٥] ، وقوله ـ تعالى ـ واصفا لنفسه (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات : ٥٨] قوله ـ تعالى ـ : (الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [هود : ٦٦]. فإن قيل : الاستدلال بالنصوص على وصفه بالقدرة ؛ فرع إثبات صفة الكلام ، وهو غير ثابت بعد ؛ فلا يصح الاحتجاج بها. وإن صح الاحتجاج بها ؛ إلا أنها متروكة الظاهر ؛ فإن القوة في الحقيقة : عبارة عن الصلابة المناقضة للخور ، والله ـ تعالى ـ يتقدس عن الاتصاف بذلك. وإذا آل الأمر إلى التجوز ؛ فليس حمل القوة على القدرة ، بأولى من حملها على كونه بحال يصدر عنه جميع الموجودات. والجواب : أما السؤال الأول : فمندفع ؛ وذلك أنه لا يخلو : إما أن تكون صفة الكلام ثابتة ، أو غير ثابتة. فإن كان الأول : فقد صح الاستدلال. وإن كان الثاني : فليس من شرط الدليل أن يكون مسلما ؛ بل شرطه أن يكون بحال يمكن تسليمه بالدلالة عليه وتقريره ، وإثبات صفة الكلام بهذه الحالة ؛ فإنا سنبين كونها ثابتة فيما بعد. وما ذكروه من مخالفة الظاهر ؛ ممنوع ؛ فإن القوة وإن كانت في أصل الموضوع عبارة عن الصلابة كما ذكروه ؛ إلا أن استعمالها بإزاء القدرة مجاز مشهور. ولهذا إذا قيل فلان قوي على كذا ، تبادر إلى الفهم منه عند الإطلاق ؛ أن له عليه قدرة ، ولا كذلك ما ذكروه من التأويل والذي يدل على امتناع الحمل على ما ذكروه من المجاز قوله ـ تعالى ـ : (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فقد أثبت لهم أصل القوة ، وهي غير مفسرة في حقهم بالإيجاد ، فإنا سنبين أنه لا موجد غير الله ـ تعالى ـ فتعين تفسير القوة بما ذكرناه. وبالجملة فطريق الاستدلال في هذا الباب بالنصوص المذكورة لا يخرج عن الظن ، والتخمين ؛ وهو غير مكتفى به في اليقينيات. أبكار الأفكار (١ / ١٩٩).