من استراق السمع بالملأ الأعلى ، فيظنّ جليسهم أن ذلك من كرامة ، هيهات لما ظنّوا ، ولهذا ما ترى قطّ أحدا جالسهم فحصل عنده علم بالله جملة ، غايته أن يمنحوه من علم خواصّ النبات والأحجار ، والأسماء ، والحروف ، فهو علم السيميا ، فلم يكتسب منهم إلّا العلم الّذي ذمّته الشرائع ، ومن ادّعى صحبتهم وهو صادق في دعواه فاسأله عن مسألة في العلم الإلهي ، ما تجد عنده أصلا ، فرجال الله يفرّون من صحبتهم أشدّ فرارا منهم من الناس، فإنه لا بدّ أن تورث صحبتهم في النفس تكبّرا على الغير بالطبع ، وازدراء بمن ليس له في صحبتهم قدم ، وقد رأينا جماعة ممن صحبوهم حقيقة وظهرت لهم براهين على صحّة ما ادّعوه من صحبتهم ، وكانوا أهل اجتهاد وعبادة ، ولكن لم يكن عندهم من جهتهم شمّة من العلم بالله ، ورأينا فيهم غرة ، وتكّبرا.
قال : فمجالستهم رديّة جدا ؛ لأنّ أصلهم نار ، والنار كثيرة الحركة ، ومن كثرت حركته كان الفضول أسرع إليه ، فهم أشدّ فتنة على جليسهم من الناس (١).
فصل
ومن الغرائب سماعهم للأصوات الملكوتية ، كسماع الأنبياء عليهمالسلام الوحي النازل عليهم كلاما منظوما ، كما مضى بيانه ، أو مثل صلصلة الجرس ، ودوي النحل ، كما جاء في الحديث عن النبي صلىاللهعليهوآله ، أنه كان يسمع ذلك ، ويفهم المراد منه (٢) ، وكسماعهم وسماع الأولياء أيضا بنورهم أصوات عذاب الأموات في
__________________
(١) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ١ : ٢٧٣ ، بتقديم وتأخير في العبارات.
(٢) ـ أنظر : صحيح البخاري : ١ : ٢ ، وغيره من المصادر.