فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩))
ـ البيان : هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء حججه على خلقه. لقد أقدم طالوت على محاربة العدو ومعه جيش من أمة مغلوبة. عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة ، وهو يواجه جيش امة غالبة فلا بد اذن من قوة كامنة في ضمير الجيش الذي يقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة. فلا بد للقائد المختار اذن ان يبلور ارادة جيشه وضموده وصبره ، صموده أولا للرغبات والشهوات ، وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب. واختار هذه التجربة (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ).
وفي هذا تبين المؤمن من المنافق ، والمتيقن من المشكك ، ولما التقى الجيشان انفصل الذين شربوا ودب في نفوسهم الذعر والخوف من عدوهم وقالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده.
وصمد الذين آمنوا وكانوا على يقين تام من صحة ايمانهم فأعلنوا موقفهم الجازم بدون أدنى تردد (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
لقد ثبتت القلة الباقية ، وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته بقيادة جالوت ، لكن الايمان الصحيح يجعل من صاحبه قلعة ثابتة تهزأ بالرعود والرياح وان زمجرت وعصفت واشتدت. انه الاعتزاز بقوة اخرى أكبر من قوة الواقع المنظور ، وهذه لا يصمد لها ولا يراها الا من اكتمل ايمانه واتصل بربه يقينه ، وأصبحت له موازين جديدة يستمدها من واقع ايمانه غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم.
لذلك قد برزت الفئة المؤمنة القليلة المختارة ، ذات الموازين