وكانت تاهرت هي المركز الثاني الذي ازدهرت فيه الحياة العلميّة في عهد الدولة الرستميّة ، وخاصّة في عهد الأئمّة : عبد الوهّاب وابنه أفلح وحفيده أبي اليقظان. وقد ترك لنا ابن الصغير صورا حيّة وأخبارا مفصّلة عن هذه الحياة العلميّة وعن مدى التسامح الذي كان سائدا بين مختلف المذاهب الفقهيّة والفكريّة في تاهرت (١).
إلى هذين المركزين الواقعين في شرق أوراس وغربه ، يكون عالمنا قد شدّ الرحال طلبا لمزيد من المعرفة ، وحضور مجالس الدرس والمناظرة والاتّصال بالعلماء. وسواء أطالت رحلته العلميّة إلى هذين المركزين أو إلى أحدهما أم قصرت ، فإنّ الشيخ هودا يكون قد عاد إلى موطنه الأوّل ، وقد ملأ وطابه من العلم النافع واتسعت آفاق معارفه ، وكثرت تجاربه. وها هو ذا ـ بعد أن ورث علم أبيه وأخلاقه ، ولمع اسمه بين العلماء ـ يستقرّ في أوراس ، فيصبح بها محطّ أنظار ، وقبلة آمال لطلبة العلم خاصّة ، وللناس عامّة. يقصده الطلبة ليقتبسوا من علمه وأخلاقه وتجاربه ، ويقصده سائر الناس ليتلقّوا منه التوجيهات الرشيدة ، والرأي السديد ، والحلّ المرضي لمشاكلهم ، فيقضي كلّ من قصده مأربه ، وينال بغيته. وقد قدّم لنا البدر الشمّاخيّ الشيخ هودا الهوّاريّ وكتابه بالعبارة الموجزة التالية : «ومنهم هود بن محكّم الهواريّ ، وتقدّم الكلام على أبيه. وهو عالم متفنّن غائص. وهو صاحب التفسير المعروف ، وهو كتاب جليل في تفسير كلام الله لم يتعرّض فيه للنحو والإعراب ، بل على طريقة المتقدمين» (٢).
ولنقرأ هذه القصّة الطريفة التي كان أبو زكرياء يحيى بن أبي بكر أوّل راو لها ، وهي تتعلّق بالشيخ هود الهوّاريّ. قال :
«وذكر الشيخ ميمون بن حمودي (٣) أنّ هود بن محكّم الهوّاريّ جاءه رجل من العزّابة يستعين به على ما يفكّ كتبا له مرهونة عند رجل من النّكّار في خمسة دنانير ، فدعا هود بن محكّم
__________________
(١) ابن الصغير ، المصدر المذكور أعلاه ، وانظر : إبراهيم بحاز ، الدولة الرستميّة. الباب الثالث ، الحياة الفكريّة ، ص ٢٥٩ ـ ٣٩٨.
(٢) الشمّاخي ، السير ، ص ٣٨١.
(٣) هو ميمون بن حمودي بن زوزدتن (أو زورستن) الوسياني. وقد صنّفه الدرجينيّ في الطبقة التاسعة (٤٥٠ ـ ٥٠٠ ه) ، وذكر بعض أخباره. ولم تذكر المصادر سنة وفاته. انظر : الدرجيني ، طبقات المشايخ بالمغرب ، ج ٢ ، ص ٣٩٥ ـ ٣٩٩. وانظر : الشمّاخي ، السير ، ص ٣٨١.