الدينيّة خاصّة ؛ وأعني بهما : القيروان وتاهرت. كان وجود هذين المركزين جديرا بأن يشدّ انتباه العالم الناشئ الطموح ، وأن يستحثّ همّته فيولي وجهه شطريهما ، لينهل منهما ما يشبع نهمه العلميّ ، ويروي ظمأه للمعرفة.
لقد كانت هاتان العاصمتان تزخران بالعلماء والأدباء من مختلف الطوائف الإسلاميّة والمذاهب الدينيّة. وكانت مجالس العلم والمناظرة في أوج نشاطها. وكان الجدل يشتدّ أحيانا ويحتدّ ، حتّى يتّخذ أشكالا من الصراع المذهبيّ ، وكان التسامح يسودها أحيانا ، فتنتظم اللقاءات ، وتعقد الندوات بين العلماء ، وتتلاقح الأفكار ، فلا يستنكف هذا أن يأخذ من هذا ، وأن يستفيد هذا من ذاك ، وإن لم يكن على مذهبه أو من طائفته (١).
على أنّ القيروان مثلا لم تخل في عهد الأغالبة من علماء إباضيّة عاشوا بجنب علماء مالكيّة ، وإن كان هؤلاء هم الأغلبيّة ، وبجانب علماء من الحنفيّة أو غيرهم من المذاهب الإسلاميّة الأخرى.
ونجد لوّاب بن سلّام بن عمر اللواتي الإباضي يعقد فصلا خاصّا في كتابه : «بدء الإسلام وشرائع الدين» (٢) جعل عنوانه هكذا : «تسمية فقهاء أصحابنا وعلمائهم ومشايخهم وذراريهم بمدينة القيروان وحواليها». لقد عدّ منهم أحد عشر عالما مبرّزا وحدّد مجلس كلّ واحد منهم وسكناه بمدينة القيروان وما حولها. وكان من بين هؤلاء عالمان ينتسبان إلى قبيلة هوّارة نفسها.
كان ذلك طوال القرن الثالث الهجري. فقد كتب لوّاب بن سلّام كتابه بعد سنة ٢٧٣ / ٨٨٦ بقليل (٣). ويعدّ هذا الكتاب من أقدم كتب التاريخ التي وصلت إلينا من شاهد عيان لأحداث القرن الثالث الهجري فقصّها علينا ؛ وقد عاش بين جبل نفوسة وبلاد الجريد أى في شرق إفريقية ، بينما عاش ابن الصغير في مدينة تاهرت.
__________________
(١) ابن الصغير ، أخبار الأئمّة الرستميين ، ص ٨١ ـ ٨٥. وانظر عبد العزيز المجدوب ، الصراع المذهبي بإفريقية ، ص ٦١ ـ ٨٤ ، و ١٠٤ ـ ١١٩.
(٢) ابن سلّام بن عمر اللواتي ، بدء الإسلام وشرائع الدين ، ص ١٥٨ ـ ١٥٩. هذا هو عنوان الكتاب الحقيقيّ ، وقد اطّلعت عليه مخطوطا سنة ١٩٧٦. ثمّ طبع تحت عنوان مزيّف سخيف سنة ١٤٠٥ ه / ١٩٨٥ م ، ونشرته دار اقرأ البيروتيّة. وانظر : صالح باجية ، الإباضية بالجريد ، ص ٢٠٦.
(٣) يقول عنه الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب في كتابه ورقات : إنّه «أقدم المؤرّخين الإفريقيّين».