البوادي ، أو حتّى في المغارات إذا اختلّ الأمن ، واضطربت الأمور ، وخيفت الفتن.
إنّ المصادر لا تفصّل لنا شيئا من هذا عند ما تحدّثت عن الشيخ هود ، ولكنّنا نتصوّره اعتمادا على طريقة التعلّم التي نقرأ أوصافها في كتب سير الإباضيّة. فكثيرا ما كان الشيخ يتنقّل بطلبته في بعض فصول السنة إلى البوادي والأرياف ، وتتواصل الدراسة هناك في أوقات من ليل أو نهار ، تحت ظلال الأشجار ، أو تحت الخيام ، أو تحت أديم السماء ، في حياة كلّها جدّ ونشاط وعمل دائب من دروس علميّة للخاصّة ، أو مواعظ للعامّة. وكتب تؤلّف وتستنسخ ، ومجالس تنتظم للمناظرة في مختلف العلوم والفنون (١).
وقد دلّت كلمة الإمام أفلح التي أوردها ابن الصغير أن محكّما عاش في البادية ، كما أسلفنا. وأفادت كلمة أخرى أوردها الشمّاخيّ في ترجمة الشيخ هود الهوّاريّ أنّ هذا الأخير بعث رجلا من ملازميه إلى «حيّ هنالك من أحياء مزاتة ...» (٢) كما أن عبارة البكري التي سلفت تبيّن أنّ حياتهم كانت «بين ظعن وإقامة» : ظعن في الشتاء إلى البادية «خوفا على نتاج إبلهم» ، وإقامة بقراهم في جبل أوراس أثناء الربيع والصيف وأوائل الخريف (٣).
في ظلّ هذه الحياة يكون الشيخ هود قضى فترة صباه ، وشيئا غير قليل من شبابه في بلده ، وفي موطنه بأوراس يكون قد أخذ جلّ علومه. فهل خرج الفتى هود من بلده في رحلة لطلب العلم؟. أنا لا أستبعد ذلك ، بل إنني أميل إليه وأكاد أجزم به.
ذلك أنّ مركزين عظيمين كانا في ذلك العهد بإفريقية يشعّان بأنواع المعرفة عامّة ، وبالعلوم
__________________
(١) انظر الإشارة إلى ذلك في المقدّمة التي كتبها المرحوم الشيخ عبد الرحمن بكلّي لكتاب الدرجيني : طبقات المشايخ بالمغرب ، ص : د ـ ه. وشبيه بهذه الحياة ما يروى عن حياة أهل جبل نفوسة ؛ فقد كان علماؤهم يتنقّلون في أيّام الصيف والخريف مع تلاميذهم إلى الأرياف يجنون التين والزيتون دون أن تتوقّف الحياة العلميّة ، بل إنّها تستمرّ وتزدهر في مجالس المناظرة وحلقات الدروس وتأليف الدواوين. ويشبه هذا أيضا ما كان قصّه علينا أستاذنا المرحوم الإمام إبراهيم بيّوض من أنّ شيخه الحاج عمر بن يحيى كان ينتقل ببعض طلبته من القرارة إلى وارجلان في فصل الخريف ، وأنّ حلقات الدروس كانت تستمرّ بانتظام أثناء رحلتهم وطوال مدّة إقامتهم.
(٢) الشمّاخي ، السير ، ط. حجريّة ، ص ٣٨١.
(٣) البكري ، المغرب ، ص ١٤٥.