يوم بؤسه! ألا وإنّكم في أيّام أمل من ورائه أجل ، فمن عمل في أيّام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله ، ولم يضرره أجله. ومن قصّر في أيّام أمله قبل حضور أجله ، فقد خسر عمله ، وضرّه أجله. ألا فاعملوا في الرّغبة كما تعملون في الرّهبة ، ألا وإنّي لم أر كالجنّة نام طالبها ، ولا كالنّار نام هاربها ، ألا وإنّه من لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل ، ومن لا يستقم به الهدى ، يجرّ به الضّلال إلى الرّدى. ألا وإنّكم قد أمرتم بالظّعن ، ودللتم على الزّاد. وإنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل ، فتزوّدوا في الدّنيا من الدّنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا ».
وعلّق الشريف الرضي على هذا المقطع من كلامه عليهالسلام بقوله :
أقول : إنّه لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا ، ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام ، وكفى به قاطعا لعلائق الآمال ، وقادحا زناد الاتعاظ والازدجار ، ومن قوله عليهالسلام : « ألا وإنّ اليوم المضمار وغدا السّباق ، والسّبقة الجنّة والغاية النّار » فإن فيه ـ مع فخامة اللفظ ، وعظم قدر المعنى ، وصادق التمثيل ، وواقع التشبيه ـ سرّا عجيبا ، ومعنى لطيفا ، وهو قوله عليهالسلام : « والسّبقة الجنّة ، والغاية النّار » فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين ، ولم يقل : « السّبقة النّار » كما قال : « السّبقة الجنّة » ، لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب ، وغرض مطلوب ، وهذه صفة الجنة وليس هذا المعنى موجودا في النار ، نعوذ بالله منها! فلم يجز أن يقول : « والسّبقة النّار » بل قال : « والغاية النّار » ؛ لأن الغاية قد ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء إليها ، ومن يسره ذلك ، فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا ، فهي في هذا الموضع كالمصير والمآل ، قال الله تعالى : ( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال : سبقتكم ـ بسكون الباء ـ إلى النار ، فتأمل ذلك. فباطنه عجيب ، وغوره بعيد لطيف. وكذلك أكثر كلامه عليهالسلام (١).
__________________
(١) نهج البلاغة ١ : ٧١ ـ ٧٣.