تصرّم الدنيا
خطب الإمام عليهالسلام أصحابه بهذه الخطبة البليغة وقد وعظهم بها ، وحذّرهم من غرور الدنيا وفتنها وشرورها ، قال عليهالسلام :
« ألا وإنّ الدّنيا قد تصرّمت ، وآذنت بوداع وتنكّر معروفها ، وأدبرت حذّاء (١) ، فهي تحفز بالفناء سكّانها ، وتحدر بالموت جيرانها ، وقد أمرّ فيها ما كان حلوا ، وكدر منها ما كان صفوا ، فلم يبق منها إلاّ سملة كسملة الإداوة (٢) ، أو جرعة كجرعة المقلة ، لو تمزّزها الصّديان لم ينقع (٣). فأزمعوا عباد الله الرّحيل عن هذه الدّار المقدور على أهلها الزّوال ، ولا يغلبنّكم فيها الأمل ، ولا يطولنّ عليكم فيها الأمد.
فو الله لو حننتم حنين الولّه العجال ، ودعوتم بهديل الحمام ، وجأرتم جؤار متبتّل الرّهبان ، وخرجتم إلى الله من الأموال والأولاد ، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده ، أو غفران سيّئة أحصتها كتبه ، وحفظتها رسله ، لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه ، وأخاف عليكم من عقابه.
والله لو انماثت قلوبكم انمياثا (٤) ، وسالت عيونكم من رغبة إليه أو
__________________
(١) الحذاء : السرعة.
(٢) السملة : بقيّة الماء في الحوض.
(٣) التمزّز : الامتصاص قليلا قليلا. الصديان : العطشان.
(٤) انماثت : أي ذابت.