الوجدانية إدراك أولي ، ومعرفته بمحسوساته الوجدانية معرفة أولية ، لكن مع هذا فإنّ هذه المعرفة ليست دائما يقينية ، بل قد تكون غير ذلك.
فمثلا : إذا اتفق لإنسان أن يسمع صوتا ، فمعرفته بهذا الصوت وجدانه ، لأنّ سماعه وجداني ، فلو ابتعد هذا الإنسان عن مصدر هذا الصوت قليلا فإنّه يبقى يسمعه لكنّه يبقى يبتعد ويخفّ سماعه للصوت وهكذا كلّما ابتعد ، حتّى يصل إلى درجة يشكّ في أنّه هل يسمع الصوت ذاته أم لا؟ ، إذن فهذا شكّ في قضية أولية لأنّها قضية غير مستنتجة وهذا دليل على إمكان وقوع الخطأ والشك في الوجدانيات الأوليات فكيف بقضايا أولية غير وجدانية.
ومثال آخر : وهو أنّهم بقوا لفترة طويلة من الزمن قديما يطبقون قانون «انّ الكل أعظم من الجزء» على الكميات المتناهية وغير المتناهية ، ومن هنا استدلّ على استحالة التسلسل ببرهان التطبيق ، أي تطبيق العلل على المعلولات ، كأن يقال : إنّه إن تساويا لزم تساوي الجزء مع الكل ، لأنّ سلسلة المعلولات هي سلسلة العلل بإضافة واحد ، والكل لا بدّ وأن يكون أعظم من الجزء ، وإن لم يتساويا كان معناه تناهي أحدهما على الأقل ، وقد كان هذا البرهان على استحالة التسلسل مبنيا على بديهية «انّ الكل أكبر من الجزء» حتّى جاءت الرياضيات الحديثة فأنكرت بداهة هذه القضية في الكميات اللّامتناهية ، وجعلتها مختصّة بالكميات المتناهية ، إذ في غيرها ينعدم معنى الكل والجزء ، مع أنّ قضية «انّ الكل أعظم من الجزء» قضية أولية حكم بها كثير من العقول ، كما حكم ببطلانها كثير من العقول أيضا ، وعليه : فعلى فرض كونها خطأ ، فهو في إدراك كونها أولية ، ومن هنا امتازت الرياضيات البحتة والمنطق عن العلوم النظرية ، وكان الخطأ فيهما أقل ، باعتبار أنّ المصادرات والأصول الموضوعية في المنطق والرياضيات البحتة معلوم الحقّانية.