خلافها ، فمن أين يعرف حال ذلك العاقل الأول ، وانّه كان يدرك الحسن والقبح أم لا ، نعم نحن نجزم بأنّه كان يدرك قياسا على أنفسنا ومن خلال وجداننا ، وهذا الوجدان هو الأساس في اعتقادنا بأنّ ذاك العاقل كان يدرك الحسن والقبح ، وعليه ، فالأصل في هذه الدعوى هو الوجدان ، وحينئذ فإن قبلنا هذا الوجدان ، إذن فلندّعه من أول الأمر ، وإن لم نقبله ، فلا يتمّ هذا البرهان ، لعدم علمنا بأنّ العاقل الأول كان يدرك الحسن والقبح أم لا.
ولكن الوجدان ـ كما عرفت ـ قائم على وجود حسن وقبح ، وهذا الوجدان لم ينكره الأرسطيّون أنفسهم على ما يصرح به أرسطو نفسه ، وابن سينا (١) في منطق الشفاء ، حيث يقولون إنّ القضية المشهورة قضية تستبطن تصديقا جازما ، وهذا لا معنى له إلّا إذا فرض واقع مرئي بهذه القضية ، هذا من ناحية وجدانية.
وأمّا من ناحية برهانية واستدلالية ، فيمكننا نقض هذه الفرضية بما حاصله : هو انّ هذه الفرضية تربط بين الحسن والقبح وبين إدراك المصالح والمفاسد ، فتعتبر انّ حكم العقلاء بالحسن والقبح تابع لإدراك المصلحة والمفسدة ، بينما هذا لا يفسّر وجداناتنا الأخلاقية (٢) في باب الحسن والقبح ، فإنّ وجداناتنا تبرهن على أنّ الحسن والقبح مستقل بنفسه وأجنبي عن باب المصالح والمفاسد ، ومن جملة هذه الوجدانات المنبهة على ذلك هو ما أبرزناه في بحث التجري حيث قلنا إنّ قبح التجري والعصيان على نحو واحد ، إذ وحدة درجة القبح في شارب الخمر عصيانا وفي شارب الخل متوهما أنّه خمر ، مع عدم وحدة درجة المفسدة يكشف عن أنّ القبح غير المفسدة ، فإنّه من الواضح انّ مفسدة
__________________
(١) منطق الشفاء : ابن سينا ، ج ٣ ، ص ٦٣ ، ٦٤ ، ٦٦. و ١٢٠ ، ١٢١ ، ١٢٢.
(٢) منطق الشفاء : ج ٣ ، ص ٦٥ ، ٦٦ ، ٦٧. النجاة : ابن سينا ، ص ٢٩ ، ٣٧ ، ٣٨.