قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) : دعا الجمهور بلسان التوحيد إلى منازل التفريد ؛ ليدخلوا إلى مرابع الرضا ، ويجلسوا على مساند الصفا ، وينظروا في مرآة الأقدار مباصر الأنوار ، لتطمئن أسرارهم في جريان التقدير ، بما رأوا من سوابق القسمة ، وأوائل الحكمة لكل دابة رزق عليه بقدر حوصلتها ، فرزق الظاهر للأشباح ، ورزق المشاهدة للأرواح ، ورزق الوصلة للأسرار ، ورزق الرهبة للنفوس ، ورزق الرغبة للعقول ، ورزق القربة للقلوب ، ورزق الملائكة الخوف والذكر ، ورزق الجن الزجر والوعيد ، ورزق الحيوان روح العنصر ، ورزق الحشرات خطرات التسبيح ، ورزق السباع اقتحام ظلام عظمة الأفعال ، ورزق الطيور الفرح والتهليل ، ورزق الإنسان الذي تعيش به هو فيض الفعل وروح الفعل ، ونور الصفة وشهود سنا الذات على الأسرار ، وهو تعالى بلطفه يعلم مصارف الجميع من أفعاله وصفاته وذاته لمّا قال : (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) : مستقر الأرواح أنوار ذاته ، ومستقر القلوب أنوار صفاته ، ومستقر العقول أنوار أفعاله ، مستودع العقول العبادات ، ومستودع القلوب المشاهدات ، ومستودع الأرواح المكاشفات ، ومستقر الأشباح أكناف الايات ، (وَمُسْتَوْدَعَها) قبور المجاهدات ، ومستقر العقول الأذكار ومستودعها الأفكار ، ومستقر القلوب المحبة ، (وَمُسْتَوْدَعَها) المعرفة ، ومستقر الأرواح التوحيد ، (وَمُسْتَوْدَعَها) الفناء في الموحد مستقر الجميع أصلاب العدم ، (وَمُسْتَوْدَعَها) أنوار القدم.
قيل : قرأ يوسف بن الحسين هذه الاية ، ثم قال : ندب الله عباده جميعا إلى التوكل والاعتماد ، فأبوا بأجمعهم إلا اعتماد على عواري ما ملكوا إلا فقراء المهاجرين ، ثم جرت تلك البركة في الفقراء الصادقين إلى من ترسم بهم من الصوفية ، فالخلق أبو الاعتماد على الأسباب ، وأبت هذه الطائفة أن تعتمد على غير المسبب ، وهو من أشد المناهج.
قيل : (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) ظاهر إسلامه ، (وَمُسْتَوْدَعَها) باطن إيمانه.
وقيل : (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) من الخلق ، (وَمُسْتَوْدَعَها) من الحق.
وقيل : (مُسْتَقَرَّها) في الطاعات ، (وَمُسْتَوْدَعَها) في الأحوال.
يقال : مستقر العابدين المساجد ، ومستقر العارفين المشاهد.
ويقال : النفوس مستودع التوفيق من الله ، والقلوب مستودع التحقيق من قبل الله.
قيل : القلوب مستودع المعرفة ، والمعرفة وديعة فيها ، والأرواح مستودع المحبة ، فالمحاب ودائع فيها ، والأسرار مستودع المشاهدات ، فالمشاهدات ودائع الله (١).
__________________
(١) قال ابن عجيبة : أي : يعلم مستقرها في العلم ، ومستودعها في العمل ، أو مستقرها في الحال ، ومستودعها ـ